بقلم الدكتور عبدالله العبادي*
بعيداً عن العاطفة الجوفاء والعنتريات والشعارات، ماذا لو حاولنا تحليل مجريات الأحداث من خارج الصندوق، وتحدثنا بكل موضوعية عن واقع الحرب الدائرة اليوم في قطاع غزة، بعد طوفان الأقصى في شهر أكتوبر الماضي. الكل يتحدّث عن انتصارات، وعن هزائم، وكل منهم يرى الأمر من زاويته، فتح وحماس وباقي الفصائل الفلسطينية، وفلسطينيو الداخل وفلسطينيو 48 وفلسطينيو الشتات والنخب السياسية والمثقفون والإعلاميون والحكومات الغربية والمواطنون العرب والأجانب… الخ.
بما أنّ الاحتلال الإسرائيلي يركّز، في استراتيجيته الإعلامية، على التضليل والمراوغة، والإعلام الفلسطيني والعربي عموماً قاصر عن تغطية الحدث كما يجب، فقد شهدت الساعات الأولى تدفّقاً كبيراً لمعلومات كثيرة استثمرها الإعلام العبري للترويج ضد ّهجوم حماس ونشر صور النساء والأطفال والرهائن.
في إطار الرؤية الحديثة للمواجهة، لا شيء تغيّر، رغم محاولة إيصال فكرة أنّ الغرب عرف حقيقة إسرائيل، فللأسف وبكل غباء لازال بعض العرب يثقون في سياسة الغرب، وينتظرون عطفهم، ويقولون إنهم لا يعرفون الحقيقة، وأن الإعلام الغربي يوصل الحقيقة مشوّهة لهم. أقول لهم كفى بلادةً، فالغرب سياسيين وشعوباً هم من صنعوا إسرائيل.
العالم يعي جيداً صورة إسرائيل ويتابع عن قرب، لأن ما قامت به يكاد يفوق التصور من سفك للدماء، وتعذيب وسجن منذ عقود. فماذا فعل الغرب، وماذا تنتظرون منهم اليوم، بعد موجة من المظاهرات في شوارع العواصم العربية والغربية مساندةً للقضية الفلسطينية؟ اليومَ عاد الكلُّ إلى عمله اليومي وانشغالاته، وبات الفلسطيني تحت رحمة الرصاص والجوع والخوف والموت!
إسرائيل بالتأكيد تعتمد على فرض قراءة للأحداث منذ لحظة وقوعها، وتمهّد لأي عمل قبل ذلك، وتسعى لتبريره وتمريره، ذلك بأنها توقف أي حديث عن مسببات الحدث، أو المسار الذي أوصل الأمور إليه، وبذلك جعلت حماس في موقف الورقة التي تدار بها الحرب لحساب قوى خارجية كـ (إيران وحزب الله)، لكن بالدم الفلسطيني!
ولكن إحدى أبرز الخسائر الاستراتيجية التي تكبّدتها إسرائيل، هي أنها أعادت شرح القضية الفلسطينية من جديد للأجيال الجديدة. فحرب الإبادة التي تمارسها اليوم في القطاع، وعملية التهجير الممنهجة، أظهرت، من جديد، النيّة المبطّنة والتي تمّ التخطيط لها مسبقاً وربما بموافقة جهات أخرى في المنطقة.
كما جاءت هذه المعركة نتيجة تراكم كمية لافتة من الوعي والتحشيد، على نحو يشكل جبهة موازية لجبهات الميدان. وهي إعادة القضية الفلسطينية إلى العالم العربي والإسلامي بعد أن صارت قضية فلسطينية–فلسطينية وصراع الفصائل في الداخل والخارج.
اللافت هنا أنّ مسارات المواجهة، على تعدّدها، استفادت من المحتوى المتوافر من داخل غزة، لتظهر أن الفلسطيني دفع ثمناً غالياً في مواجهة هذا الصراع الذي لا ينتهي على الأقل في المدى القريب والمتوسط، وربما يعيد التفكير في الحلول السلمية ضماناً لحياة أفضل لأجيال فلسطينية ولدت في معترك الحرب وتطمح لحياة كريمة فوق التراب الفلسطيني.
بالتأكيد نحن لا يصلنا إلا القليل من المشاهد، فهنالك آلاف القصص الإنسانية لم تُنشَر بعدُ، والتي يتعيّن علينا مشاهدتها للوقوف على حجم المعاناة التي يعيشها المواطن الفلسطيني الآنَ. لا شكّ في أنّ العمليةَ تراكميةٌ في جدواها، ويجب البناء عليها، وهذا كله يجعل ساحةَ المواجهة، المفتاحَ الذي يجب الانطلاق منه لفهم القضية والبحث عن طريق آمن للعيش. وبالتالي، سيتحتّم على الجيل الجديد مسؤوليات جديدة ضمن تحديات استراتيجية قد تعصف بالفصائل الفلسطينية في شكلها الحالي والتي ربما أساءت للقضية وللفلسطيني أكثر مما عملت على إنهاء الصراع بالشكل الذي يخدم المواطن والأرض.
أتمنى ألّا تتحقق مقولة قائد لملكه بعد الحرب: (انتصار آخر مثل هذا ونهلك!).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور عبد الله العبادي – كاتب صحفي، محرر الشؤون العربية و الأفريقية في صحيفة الحدث الأفريقي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً