بقلم الدكتور آصف ملحم*
يعتبر تحقيق التوازن في العلاقات السياسية الخارجية إحدى أكبر المعضلات التي أفرزتها الحرب الروسية-الأوكرانية؛ إذ وجدت الكثير من الدول نفسها أمام تحديات جسيمة، فهي لا تستطيع الوقوف مع الغرب من جهة، ولا الوقوف مع روسيا من جهة أخرى. و بما أن الحاجة و الاستجابة هو المبدأ الأساس الذي يضبط العلاقة بين الدول، فإنه لا يمكننا أن نضع اللوم على حكام دول معينة في البحث عن مصالح شعوبهم و اتباع سياسات متعددة المتجهات و المستويات.
بالمقابل، فإن روسيا تتفهم موقف الكثير من الدول في تطوير علاقتها مع الدول الغربية، إذا كان ذلك لا يؤدي إلى تضرر المصالح الروسية المرتبطة بتلك الدول.
في الواقع، لكل دولة خصوصياتها و ظروفها التي تضبط علاقتها مع الخارج، ويستطيع الباحث إجراء تقييم موضوعي بدون عناء في الكثير من الحالات. أما الحالة التركية فتبدو أنها عصية على الفهم في الكثير من جوانبها؛ لذلك سنحاول في هذه المقالة استجلاء الصورة لفهم طبيعة السياسة التركية، وكيف ستتمكن تركيا من المحافظة على هذا التوازن الديناميكي المضطرب.
في العقد الأخير، وبعد فشل محاولات تركيا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، يممت أنقرة وجهها نحو الشرق، وبدأت تتحدث عن موضوع التكامل بين الشعوب التركية، إلا أن المناطق التي تقطنها هذه الشعوب، وهي تركيا و أذربيجان و أوزبكستان و تركمنستان و قيرقيزستان و كازاخستان، تتموضع بين مجموعة من مراكز القوى الهامة؛ لذلك فعملية التكامل هذه لن يُكتب لها النجاح مالم تسمح روسيا والصين والهند وباكستان وإيران بذلك. ولقد بدأت تركيا بخطوات كثيرة في تطوير علاقاتها السياسية و الاقتصادية و الثقافية مع آسيا الوسطى، بهدف تقوية موقعها الجيوسياسي و حماية مصالحها القومية، حتى بتنا نعتقد أن تركيا تخلت عن أحلامها الأوروبية و باتت جزءاً من هذا الشرق، وستكون قوة إضافية في الدفاع عن قضاياه المعقدة، و التي كان الغرب أصلاً السبب الرئيسي في خلقها و تعميقها.
تؤكد الأحداث الأخيرة أن هذه الصورة بدأت تنقلب؛ و لا يتعلق الموضوع فقط بموافقة تركيا على انضمام السويد إلى حلف الناتو؛ فالجميع يعلم أن الموافقة التركية ستأتي عاجلاً أم آجلاً؛ فلا يمكن أن تقاوم تركيا ضغوط باقي أعضاء الحلف. ولقد كتب جون بولتون، المستشار السابق للرئيس ترامب، في بداية يناير من العام الجاري في صحفية التلغراف مايلي:
(لقد اتخذت فنلندا والسويد قراراً مذهلاً بالانضمام إلى الناتو، لكن شركاء روسيا التجاريين والعسكريين لم يتركوها بعد في اللحظات الصعبة، للأسف، بما في ذلك تركيا، التي يجب أن تكون عضويتها في الناتو موضع تساؤل في عام 2023 إذا أعيد انتخاب الرئيس أردوغان، ربما عن طريق الاحتيال).
علاوة على ذلك، فإن موضوع انضمام السويد للحلف لا يقلق روسيا كثيراً، فالتعاون العسكري بين الاتحاد الأوروبي و الحلف متين جداً، وبالتالي فالانضمام هو ليس سوى إجراء لقوننة هذا التعاون بين الطرفين فحسب.
القضية الأهم، و التي يجب التوقف عندها طويلاً، هي إطلاق تركيا سراح بعض عناصر فوج آزوف، المصنف على أنه منظمة إرهابية بقرار من المحاكم الروسية المختصة.
بعد سيطرة القوات الروسية على مدينة ماريوبول بتاريح 20 أيار 2022، استسلمت هذه العناصر بقيادة دينيس بروكوبينكو، وهو يحمل الاسم الحركي (ريديس). بعد 4 أشهر من الأسر، في سبتمبر من ذلك العام، و بوساطة من الرئيس التركي أردوغان تم تسليم بروكوبينكو إلى الاستخبارات التركية، مع مجموعة من قادة فوج آزوف، وهم: سفيتسلاف بالامار، أوليغ خامينكو، سيرغي فولينسكي، دينيس شليغا. تعهد الجانب التركي بأن يتم الاحتفاظ بهم حتى نهاية الحرب، و أن لا يسمح لهم بممارسة أي نشاط إعلامي أو ترويجي-سياسي في تركيا.
المفارقة الكبرى هي أن دينيس بروكوبينكو نفسه ينتمي إلى الإثنية الكاريلية، و هي جزء من الشعوب الفنلندية-الأوغورية، تتركز بشكل أساسي في جمهورية كاريليا الروسية و مقاطعتي كاريليا الشمالية و الجنوبية الفنلنديتين. جده حارب مع فنلندا في الحروب الفنلندية-السوفيتية بين عامي 1939-1940. وهكذا تحول بروكوبينكو تدريجياً إلى قائد قوى مقاومة (العدوان الروسي) بين الشعوب الفنلندية-الأوغورية.
استغل هذا الوضع بعض السياسيين الروس في المهجر لمحاولة رفع قيمة أسهمه السياسية؛ من بينهم المدعو ديميتري كوزنتسوف، قائد منظمة وطنية فنلندية-أوغورية تُسمى بـ (الحركة الوطنية الكاريلية)، وهو يقيم في إسبانيا، ويدعو عبر نشاطه السياسي إلى الاعتراف باستقلال المنطقة الشمالية الروسية، أو جمهورية كاريليا الروسية. ففي مواده التي ينشرها على قناته في التلغرام KARJALA، يمجد كوزنتسوف الروح البطولية الكاريلية المتمثلة في قائد فوج آزوف بروكوبينكو.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل أن هذه الدعوات بدأت تلقى صداً و دعماً عند بعض القوى السياسية الفنلندية. فعلى سبيل المثال، آشر كينّونين Asseri Kinnunen يدعم محاولات تقريب بروكوبينكو و الاستفادة من خبراته السابقة في فوج آزوف. آشر نفسه هو قائد الحركة الوطنية “محور الأرض الجديد”، و هو نائب ممثل اللجنة البرلمانية للتخطيط الإعلامي لقضايا الدفاع الوطني الفنلندي، كما أنه الرئيس السابق لحزب الشباب الفنلندي و عضو سابق في مجلس مقاطعة كاريليا الشمالية، وتبوء عدة مناصب أخرى أيضاً.
في شهر أيار الماضي، استغل كوزنتسوف حالة الحياد التركي وعدم المبالاة بنشاط بعض المنظمات الأجنبية و أجرى اجتماعاً تحت اسم (حلف الشعوب الأصلية)، وبعد استشارات مع بروكوبينكو، تم البدء بتجنيد المقاتلين من الإثنيتين الكاريلية و الفنلندية في (الفيلق الأوكراني التطوعي). تتم عمليات التجنيد عبر الأنترنت، لذلك تحول كوزنتسوف إلى منسق افتراضي وقائد للحركة الوطنية الكاريلية.
الآن، وبعد تسليم تركيا بروكوبينكو إلى أوكرانيا، فمن المتوقع أن يجدد الأخير نشاطه السياسي-العسكري على الأرض الأوكرانية، معتمداً على النزعة القومية الكاريلية، وقد ينتقل هذا النشاط إلى المناطق الحدودية الروسية-الفنلندية، في المناطق التي يقطنها ممثلو الإثنية الكاريلية.
بناءً على ذلك تكون تركيا قد وضعت إسفيناً في علاقتها مع روسيا، وجميع المكاسب التي حققتها بفضل حيادها قد تخسرها في المستقبل؛ فتحويل تركيا إلى مركز لتوزيع الطاقة و الأغذية كان من المشاريع الرائدة التي تعول فيها روسيا على تركيا، كما أن النزاع في مرتفعات كاراباخ ما كان ليُحَل لولا الجهود الروسية، هذا بالإضافة إلى النزعة الانفصالية عند الأكراد، التي يغذيها الغرب نفسه.
قد يقول قائل: تلقت تركيا وعوداً بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي و تقديم طائرات إف 16 لها؛ أي أننا أمام صفقة جرت بين الطرفين. وللرد على هذه المقولة يكفي أن نقول: لقد تلقت تركيا الكثير من الصدمات في الماضي بسبب علاقتها مع الغرب، كما أن الولايات المتحدة خدعتها و استخدمتها كمطية لتمرير الكثير من المشاريع إلى منطقة الشرق الأوسط.
وبالتالي يصبح السؤال: هل نحن أمام سيناريوهات مشابهة أيضاً؛ أي هل من الممكن أن يحاول الغرب إقحام تركيا في صراعه الدائر مع روسيا وبالتالي وضعها أمام المدفع الروسي كما فعل بأوكرانيا تماماً؟
بالتأكيد، نحن لا نتمنى لمثل هذا السيناريو أن يتطور، لأن الخاسر الوحيد فيه هو الشعب التركي!
لذلك يبرز السؤال: ما هي الأوراق التي تملكها روسيا لمحاولة تعديل الموقف التركي بحيث يكون أقل انحيازاً للغرب مما هو ظاهر الآن؟
في روسيا، عادة ما يطلق على تركيا اسم (الحليف الصعب)؛ ولكن، بالرغم من التباين الشديد في الكثير من المواقف حيال القضايا ذات الاهتمام المشترك، تمكن الطرفان خلال السنوات الماضية من إيجاد مساحة وافرة للحوار و إيجاد الحلول الناجعة لكل الخلافات. و الأيام المقبلة ستبين فيما إذا كانت روسيا و تركيا قادرتين على تجاوز هذا المنعطف السياسي الجديد و الخطير!
= = = = =
*الدكتور المهندس آصف ملحم – مدير مركز جي اس ام للأبحاث والدراسات.
**تم نشر هذه المقالة أولاً في صحيفة رأي اليوم اللندنية للاطلاع اضغط هنا.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً