بقلم الدكتور محمدعياش*
منذ قيام الكيان الصهيوني وحتى الوقت الحاضر، لم يهيمن أي مفهوم بشكل كامل على الخيال الاستراتيجي بقدر ما سيطر مفهوم الردع. قال رئيس الوزراء الأسبق أرييل شارون: إن الردع هو «السلاح الرئيسي للبلاد – الخوف منا». وقال الجنرال الإسرائيلي الشهير موشيه ديان: «يجب أن يُنظر إلى «إسرائيل» باعتبارها كلباً مسعوراً؛ خطيراً جداً بحيث لا يمكن إزعاجه».
ودائماً أذكّر بأنّ المشروع الصهيوني، مشروع غربي وعبّرت الولايات المتحدة الأمريكية بوصفه «القاعدة المتقدمة في الشرق الأوسط» وضرورة حمايته وتسليحه حتى الأسنان، واقتطاع الضرائب القسرية وتسخير كل مقومات التكنولوجيا الحديثة له قبل الولايات المتحدة، ورعايته ثلاثياً كلاسيكياً كالعادة؛ واشنطن – لندن – باريس.
أما فيما يخص ظهور بعض الاختلافات في وجهات النظر بين واشنطن والكيان؛ فهذه سياسة أصبحت مكشوفة للقاصي والداني، اختلافات لا يمكن أن تتحول إلى خلافات، لأن في واشنطن حزبين يختلفان في كل شيء إلا على «إسرائيل».
«إسرائيل» فقدت هيبتها بفقدانها سياسة الردع؛ وهذه الخسارة لا تحسب على الكيان فحسب؛ بل تعد خسارة للدول الراعية حيث الاستثمار الغربي أصبح في خطر؛ لا سيما في الجهة المقابلة تتربص المخاطر القادمة من الشمال والشمال الشرقي – روسيا والصين إذ يَعُدّان ضعف «إسرائيل» مؤشراً قوياً على بداية تلاشي القبضة الحديدية للولايات المتحدة في المنطقة.
مفهوم الردع الإسرائيلي ولعقودٍ؛ استمر بنجاح بالاعتماد على سياسة التفكيك واليد الطولى والتلويح بالسلاح النووي وتفوّقه على بلدان المنقطة؛ إلا أن هذه العوامل لم تشفع للكيان وتثبيته في وجدان المقاومة الباسلة؛ بالعكس تماماً انفضح أمره مع داعميه؛ وتبيّن للعالم بأنهم مجموعة لصوص يحاولون بشتى السبل أن يقدموا للعالم صورة للديمقراطية؛ في حين أن سرطان التمييز العنصري ينهش أجسادهم.
خمسة وسبعون عاماً من تراكم الظلم والعسف ضد الشعب العربي الفلسطيني وبقية البلدان، تنفجر بوجه الكيان وحُماته وعلى جميع الصُعد، وإلا لماذا تحركت البوارج والأساطيل الأمريكية والبريطانية والفرنسية لإنقاذه ؟ في بداية قيام الكيان أرادوه قاعدة ضمن دولتين والقاعدة لا تزال ترفض الاعتراف بالدولة الفلسطينية، بل وزادت في غيّها باختلاق الشعارات والمطامع.
العودة الصهيونية لمفهوم الردع والاطمئنان شبه مستحيلة وجميع الخيارات لا تصبُّ في صالحها، حتى لو أنجزت احتلالَ قطاعِ غزةَ بأكمله، لأنّ هنالك اصطفافاً دولياً يتشكل ضد الممارسات الصهيونية، ولأنها أصبحت (بارومتراً) حقيقياً لانتهاك القانون الدولي ومحرّضاً للهيجان الشعبي العالمي.
تعّول دولة الاحتلال في اللحظة الراهنة على استسلام المقاومة، لتسوّقَ للعالم حجتها بالمظلومية التي حصلت يوم السابع من أكتوبر ناسفةً بذلك بدايات الاحتلال والتزوير الدولي في قيامها بقرار مشؤوم ومجحف، لذلك لا ترى بدا ً من استمرار الحرب والتهديد والوعيد بدخول مدينة رفح الذي يتواجد فيها أكثر من مليون ونصف فلسطيني وأغلبهم من اللاجئين.
لا يمكن التغافل عن الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الأمريكية والفرنسية وعلى نحو أقل البريطانية. إذ تعدُّ هذه الاحتجاجات عاملاً مهماً للغاية، لأنها جاءت من الصروح العلمية التي يتخرج منها قيادات المرحلة المقبلة، ونسميها نحن بمنطقتنا بـ الخير المُؤجّل. الكيان الصهيوني وعبر منظماته على سبيل المثال «الهسبارا» المعنية بالتحكم والسيطرة بالرأي العام الأمريكي تحاول شيطنة هذا الحراك بوصفه «معادٍ للسامية»، الأسطوانة المشروخة.
خسارة الكيان الصهيوني لمفهوم الردع وَضَعَه تحت المطرقة والسندان، مطرقة الضغوطات الاستيلادية والمواقف الدولية وشجاعة بعض الدول التي تتخلص من العلاقة مع الكيان وتغيير النظرة الغربية وتصاعد الاحتجاجات الجامعية التي ستصل بإذن الله لكل جامعات العالم رفضاً للكيان وممارساته البشعة بحق الإنسانية التي تقف اليوم على مذبح الصهيونية.
والسندان الفولاذي الصلب والثابت، هو المقاومة الفلسطينية الشريفة والمحور الذي يدعمها، والذي يؤكد بأن هذه العملية لم تكن مغامرةً، بل مدروسة وتصبّ في صالح القضية الفلسطينية التي تعيد بريقها من جديد وتستحوذ على الاهتمام الدولي بالرغم من حجم التضحيات والدمار الذي لحق بقطاع غزة، والأهم التعاطف الدولي مع قضية شعب مظلوم مقهور لا قضية جماعة أو عصابة إرهابية كما يزعم الاحتلال والدليل أن العالم يحمل راية فلسطين كدولة يجب أن يُعادَ لها حقها المسلوب.
معركتنا مع الاحتلال شارفت على النهاية، والحقوق الفلسطينية بدأت تتبلور، ومؤشرات النصر والظفر واضحة وجلية، تجاوزنا خطر الهجوم البري، وكسرنا حاجز الرهبة من الغضبة والوحشية الصهيونية التي لا مثيل لها على سطح الكرة الأرضية وآخر ما يفعله الكيان هو التدمير الممنهج الذي لا يمكن أن يعيد له الردع الذي وفّر له الاستمرار لعقودٍ خلت.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور محمد عياش – كاتب وباحث سياسي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً