بقلم الدكتور محمدعياش*
منذ قيام الكيان الصهيوني بقرار من مجلس الأمن، ووضعه في أنف العالم، وحاجته إلى دولة “أم” تحميه وتهيئ له المناخ لنشوئه، والطلب من العالم الاعتراف به لاعتبارات مزيفة، واللعب على الوتر الديني والتعلق بالمقدسات الوهمية التي يدعي بأنها موجودة تحت الأرض، وأن ثمة مؤامرة عالمية حالت دون الاستقلال اليهودي الذي لا يزال موضع شك وريبة، وانتقاله إلى دولة “أم” جديدة على مسرح السياسة، باعتبارها القطب الوحيد الذي استقرت عليه الأفكار الصهيونية والضامن لتحقيق كل الأحلام اليهودية، التي لا تزال غير معروفة، بالرغم من بعض الشعارات هنا وهناك، لا يزال وضعه غير مستقر. ولأنه قام بقرار أممي ملغوز ومغموز تظل «ثيمته» الخوف وعدم الأمان، كحال اللص الذي لم يُكتشف أمره بعد. بالتالي فإن الحالة السائدة لم تتغير، وهذا ما عبّر عنه أول رئيس وزراء صهيوني ديفيد بن غوريون، عندما وقف ينظر إلى الأراضي السورية، وسألته غولدامائير عن سبب قلقه وشحابة وجهه، فقال: كيف لا أقلق ودولتنا الوليدة محاطة بالأعداء!
من بن غوريون إلى نتنياهو لم يتغير الخطاب الرسمي، ولم تستطع هذه العصابة إقناع المجتمع الدولي بأحقيتها في الوجود، بالرغم من المحاولات الغربية الترويج بأنها دولة ديمقراطية متميزة في الشرق الأوسط. هذه الدولة قادرة على التعايش مع جيرانها العرب شريطة عدم الاعتراف بحقوق الشعب العربي الفلسطيني، الملغى في قاموس الذهنية الصهيونية، والتفاهم مع الدول العربية على إيجاد حلول لهم سواء بالترحيل، أو بإقناعهم بالاندماج الاقتصادي لمنطقة الشرق الأوسط ونبذ العنف وذلك عبر «السلام الإبراهيمي»!
الاعتقاد التوراتي راسخ عند جميع السياسيين ورؤساء الحكومات الإسرائيليين منذ “القرار الأممي” عام 1948، الذين يؤكدون ويؤمنون بالنظرية الأمنية الاستراتيجية الإسرائيلية لبقاء الكيان حي يرزَق، وَسْط دول إقليمية شعوبها ترفض هذا الوجود فضلاً على وجود علاقات دبلوماسية معه. تقوم هذه النظرية الأمنية على التفوق العسكري وقوة الردع الاستراتيجي النووي دون غيرهم من الدول الإقليمية. وهذا ما تُرجم على أرض الواقع حرفياً، انطلاقًا من تدمير المفاعل النووي العراقي 7 حزيران 1981، ومن ثم تدمير موقع الكبر النووي السوري بتاريخ 7 أيلول 2007 في عملية «البستان». وما تزال إسرائيل مستمرة بالاغتيالات الممنهجة لمعظم العلماء والمهندسين والفنيين والتقنيين لمنع العراق سابقاً وحالياً إيران من امتلاك التكنولوجيا النووية، مستغلة وجود الرئيس الأمريكي جو بايدن في البيت الأبيض، و مستفيدة من كره الرئيس السابق دونالد ترامب لإيران.
هذا الغيتو الصهيوني المغلق، أثبت أنه غير قادر على التعايش مع الآخرين، لذا عليه بين الفينة والفينة أن يفتعل أزمة أو يشن هجمات هنا وهناك، على هذا المحيط الكاره لوجوده، أو يغتال كل العقول والأدمغة التي قد تشكل خطراً على وجوده حسب زعمه. ناهيك عن آلاف السياسيين الذين نجحت إسرائيل باغتيالهم غيلةً وغدراً، محاكيةً سياسة فرنسا إبان نابليون بونابرت بقوله الشهير: إن فرنسا لا يمكنها الجلوس على الرماح، وضرورة الخروج من الدولة إلى خارجها ومقارعة الأعداء على أراضيهم قبل الوصول إليها.
ذات مرة، وفي الأيام الأولى لحرب الأيام الستة 1967، كان «ليفي أشكول» رئيس وزراء الكيان الصهيوني وقتها يصيح بأعلى صوته: «هل يريدون البقاء على حدّ السيف إلى الأبد؟». كان «أشكول» يقصد بذلك جنرالات «إسرائيل» الذين احتلوا أراضٍ عربية؛ لم يكن ممكناً عقلاً أو عدلاً الإبقاء عليها في قبضتهم إلى الأبد، مع ما يعنيه ذلك الاحتلال من بقاء العداوات إلى أجل غير مسمى، واستمرار الحروب إلى مالانهاية، وضياع فكرة السلام إلى الأبد.
نتنياهو وجنرالاته المجرمون يريدونها سياسة حدّ السيف، لأنهم نسفوا كل التفاهمات، وحتى المعاهدات الموقعة في المؤتمرات التي عقدها البيت الأبيض مع الأطراف العربية. باتت هذه الحكومة أكثر فاشية ويمينية، ومتشددة راديكالية، تتنكر لكل الحقوق الفلسطينية الشرعية، حالها كحال المؤمن الأعمى بتعاليم جابوتنسكي الأب الروحي لنتنياهو، الذي يستمد الأفكار الإجرامية التدميرية الممنهجة من عقيرته الخبيثة.
يعجّل الكيان الصهيوني في فنائه، لأن الاعتماد على هاتين الاستراتيجيتين ستجعل الجبهة الداخلية أكثر ضعفاً وهشاشة. في الأولى، أي الذهاب إلى الحرب خارج فلسطين المحتلة، يعرّضه لنزيف حاد بالأرواح والعدة والعتاد والاقتصاد، وهذه الحالة تنسف «التابو» الذي أقيم عليه الكيان، والمتمثل بالحروب القصيرة والخاطفة والحاسمة. أما في الحالة الثانية، أي البقاء على حد السيف، فلقد أثمرت نتائجها عندما قطعت عدة دول أجنبية علاقاتها معه، ودول أخرى تستعد لمثل هذا الإجراء، هذا إضافةً إلى الحراك في المحاكم الدولية، وحنق الشعوب الغربية، وغيرها من المؤشرات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور محمد عياش – كاتب وباحث سياسي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً