بقلم الدكتور مصطفى يوسف اللداوي*
لم تعد مهمة سلطات الاحتلال الإسرائيلي في مدن وقرى القدس والضفة الغربية سهلة، رغم كثافة وجوده وقوة سلاحه وتطرف حكومته، ولم يعد باستطاعة جيشهم الذي يدعي القوة والتفوق أن يدخل إليها ويخرج منها متى يشاء، وهي التي اعتاد اقتحامها في الليل والنهار بسهولةٍ ويسرٍ، وبعددٍ قليلٍ من الجنود والعربات العسكرية، ودون قوات تعززه وطائرات تتابعه وأجهزة توجه، وبلا عرباتٍ مصفحةٍ وأخرى كاسحةٍ للألغام، دون أن يتوقع خطراً أو يتهيب من المواجهة أو يخاف من المقاومة، الأمر الذي جعل دخوله إلى المناطق الفلسطينية مهمة سهلة ووظيفة مأمونة وعملاً اعتيادياً، بل كان بعض جنوده يلتقطون الصور التذكارية لأنفسهم، ويرسلونها إلى أسرهم وعشيقاتهم وكأنهم في رحلةٍ أو نزهةٍ وليسوا في مهمة قتالية وعملية عسكرية.
لكن الحال اليوم قد تغير وتبدل، ولم تعد الأوضاع كما كانت، وأصبحت مهام جيش الاحتلال التي كانت اعتيادية وطبيعية مهاماً صعبة وخطرة، وفيها مغامرة ومقامرة، ويتطلب القيام بها تدريباً وتأهيلاً، واستعداداً وتجهيزاً، وتحشيداً للقوى وتسخيراً للطاقات والإمكانيات، وزجاً بالطائرات الحربية والطوافة والمسيرة، واستخداماً للصواريخ الموجهة والقذائف المدمرة، وغير ذلك من الأسلحة والمعدات التي لم يكن جيش الاحتلال يستخدمها أو يلجأ إليها، ولم يعد جنوده يظنون أنهم في نزهة وجولة، وأنهم بعد ساعاتٍ سيعودون إلى بيوتهم وأسرهم، دون ضررٍ يصيبهم أو قتلٍ يطالهم.
الاعتقالات والاجتياحات والمداهمات والدوريات التي كانت تتم بهدوءٍ وسهولةٍ، وبصحبة عددٍ قليل من ضباط المخابرات والجنود والآليات، بات يتطلب تنفيذها قوات كبيرة، واستعداداتٍ كثيرة، ويلزمها قرارات مسؤولة وحسابات دقيقة، فما من مهمةٍ أصبحوا يقومون بها إلا وجدوا دونها مقاومةً فلسطينية كبيرة، وتأهباً وجاهزية عالية من كل القوى والفصائل، التي باتت تترقب دخول الجيش واقتحامه، وأصبحت تراقبه وتتابعه، وتعرف الأوقات التي يدخل فيها والطرق التي يسلكها، وتنسق فيما بينها وتتقاسم الأدوار فيما بين قواها المنتشرة وعناصرها المجهزة، الذين يعرفون جيداً المسالك والطرق، والمعابر والمداخل والحواجز والكمائن.
أهلنا الأبطال في القدس والضفة الغربية قرروا أن يدفعوا سلطات الاحتلال ثمن عدوانه، وأن يجرعوه مرارة جرائمه، وأن يزيدوا من كلفة سياساته، وأن يعلموه دروساً بليغةً في المقاومة والصمود، والتصدي والمواجهة، وأن يقولوا له أننا لن نسلم لك رقابنا بسهولة، ولن نمكنك من اعتقال أبنائنا ببساطة، ولن نسمح لك باغتيال رجالنا وقتل أبطالنا والتنزه في شوارعنا دون أن تدفع الثمن غالياً وكبيراً من دماء جنودك وأمن مستوطناتك، وفشل جيشك وإحباط قيادتك، ولن يكون باستطاعة مجموعاتك المستعربة وفرق النخبة التي تفخر بها وتتيه، الدخول إلى مناطقنا وتنفيذ مهامها والانسحاب بسلامٍ وأمانٍ.
بات أهلنا في القدس والضفة الغربية يقظين منتبهين، حذرين واعين، يراقبون ويرابطون، ويتابعون ويستقصون، ويحرسون ويتناوبون، ويحتاطون دائماً لئلا يؤخذوا من عدوهم ليلاً أو نهاراً على حين غرة، فكمنوا له في الشوارع والطرقات، وفي الزوايا والمنعطفات، وفوق الأسطح والبنايات العالية، وجهزوا أنفسهم ببنادق حديثة وذخيرة كافية، ومن قبل بعزمٍ وإرادةٍ صلبةٍ، وقنصوا جنوده وضباطه، وزرعوا الأرض عبواتٍ ناسفةً، وأعدوا له الكثير من المتفجرات والمفاجئات، وعما قريب قد يكون لديهم ما لدى قطاع غزة وجنوب لبنان، وهو ما يخشاه العدو ويخاف منه، وقد حذر كبار قادته ومسؤولوه العسكريون من خطورة امتلاك المقاومة في القدس والضفة الغربية لمثل هذه الأنواع من الأسلحة الفتاكة.
لم يعد أهلنا يستسلمون للعدو بسهولة، ويخضعون لأوامره وينفذون تعاليمه، فيسلمون أنفسهم للاعتقال دون مقاومة، ويرضون بالقيد والأسر والاقتياد إلى مراكز التحقيق بسهولة، بل باتوا يرفضون ويقاومون، ويعصون ويخالفون، وأصبح المطلوبون منهم مطاردين، يحملون سلاحهم ويلاحقون العدو ويتربصون به قبل أن يتربص بهم وينال منهم، وكثيرٌ منهم خاض ضد جنوده معارك شديدة، ورفضوا الاستسلام له قبل أن تنفذ ذخيرتهم أو يستشهدوا، وغدت قصص بطولتهم ومشاهد صمودهم ملاحم يرويها أهلهم ويقتدي بها شبابهم، ويخشى من تكرارها والعمل على مناولها عدوهم.
إنها فلسطين الأبية ورجالها الشم الأباة، الأبطال الكماة، أبناء جنين القسام ونابلس جبل النار، وقدس الثوار، وخليل الرجال، وبيت لحم مهد المقاومة، ورام الله الأبية، وقباطية السارية وطولكرم العصية، وطوباس رافعة العلم شديدة المراس، التي طغى فيها العدو وبغى، وظن أنه باقٍ فيها مخلداً، وما علم أن فلسطين إنما هي لأهلها وشعبها، وأصحابها وسكانها، الذين رووا ترابها بدمائهم، وسكن في ثراها آباؤهم وأجدادهم، وضحى في سبيلها أبناؤها ورجالها، وأنه قد كسرت قيدها وشبت عن طوقها واستنسرت، فلا نظن أنها ستكون بعد اليوم للعدو زبدةً طريةً يقطعها بسكينة، ولا أرضاً رخوةً يجتازها بسهولةٍ، ولا لقمةً سائغةً يستمتع بابتلاعها، بل ستكون عليه لعنةً وله قبراً وفي حلقه شوكة، وسينجو منهم من حكم عقله وآثر الرحيل، فهذه الأرض تلفظ الغرباء وتطرد الدخلاء وتستأصل من الجذور كل المستوطنين والغازين، وتمحق كل الأعداء والمتآمرين.
= = = = =
*الدكتور مصطفى يوسف اللداوي – كاتب وباحث سياسي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً