بقلم الأستاذ سفيان حشيفة*
في العقد الأخير، برز فاعلان سياسيان قويان في إفريقيا، أحدهما نفض غبار الهيمنة الغربية وتصدّى للإمبريالية الأمريكية، والآخر عُرف بأعظم ثورة في التاريخ المعاصر ضدّ الاستعمار، نهض بعد سنوات من الانغلاق على ذاته ومحاولات إضعافه داخلياً وخارجياً.
لطالما كانت موسكو بحاجة إلى شريكٍ موثوقٍ في إفريقيا والشرق الأوسط، يتمتّع بمواصفات الوفاء للاتفاقيات والتعهدات، والسيادية في الحكم والقرار، والنفوذ والتأثير في المديَيْن الدوليَيْن القريب والبعيد، ويبدو أنها وجدت بالفعل في الجزائر ذلك الجسم الصّلب المرغوب من أجل مشاركته المصالح القومية في مواجهة التحديات الجيوسياسية المعقّدة الرّاهنة على المستويَيْن الإقليمي والقاري.
وقد عرفت العلاقات الروسية الجزائرية منذ وصول الرئيس عبد المجيد تبون إلى سدّة الحكم نهاية سنة 2019م، تطورًا ملحوظًا، وتنسيقًا أعمق إزاء قضايا البلدين، أحدث زخماً سياسياً واقتصادياً كان له أبلغُ الأثرِ في إيجاد مناخٍ تشاركيٍّ وثيق لتقاسم المصالح وتبادل المنافع وفق قاعدة رابح-رابح، بدليل الاتفاقيات النوعية التي تمّ إمضاؤها صيف العام الماضي في شتّى القطاعات والمجالات الحيوية بين الرئيسين بوتين وتبون في العاصمة موسكو.
ولم يتوقّف هذا الأمر على تحيين وتثمين الشّراكة الاستراتيجية، وتعزيز أواصر الإخاء بين البلدين الصديقين تاريخياً، وإنما كان تقاربُهما الأخير أرحبَ، وأكثرَ اتًساقاً حول مختلف الملفات والمسائل المُستجدة في الشرق الأوسط وإفريقيا، ولُمِس منها توسيعاً لنطاق التنسيق والتشاور، ومزيداً من الجهود المشتركة من أجل مواجهة التحديات لاسيما الوقائع التي طرأت في منطقة السّاحل الإفريقي من دكار غرباً إلى الخرطوم شرقاً.
وما لا يجب أن يغفل عنه الجانب الروسي الحريص على توطيد روابطه بالقارة السمراء، هو دماثة ومهابة الجزائر في إفريقيا، نظير دورها الثقيل والحميد في تحرير الأفارقة من براثن الاستعمار الغربي في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، وأثرها المحوري والفعّال في تأسيس منظمة الاتّحاد الإفريقي وتحقيق وحدة القارة وتنميتها؛ إذ يتناسب ويتلاءم كل هذا مع ما ينتظرها من حراكٍ دبلوماسي لحلحلة أزمات الساحل المُنفلتة وتحييد دوله عن التدخلات والضغوطات الخارجية.
وبرغم محاولات شقّ الصّف الإفريقي من طرف فواعل خارجية وظيفية معروفة، إلاّ أنّ الوضع غير المُسْتَتِب في منطقة الساحل بالتّحديد أصبح يُحتِّم على القوى الإقليمية وعلى رأسها الجزائر مُواصلة الضغط الدبلوماسي لصدّ التدخلات السياسية ضيّقة الآفاق، وإيجاد حلول سلمية للأزمات الداخلية للدول بغية الحيلولة دون انهيار النُّظم الأمنية لا سيما في مالي والنيجر والسودان.
وعلى هذا الأساس، يَتعيَّن على روسيا الشّغُوفة بتعزيز علاقتها مع إفريقيا وضعَ عدّة نقاط في الحسبان أهمها:
1-إنّ انفلات الوضع الأمني وانتشار الإرهاب في دول الساحل والصحراء الكبرى سيُضَّيع فرص التنمية وبناء علاقات دبلوماسية قويمة مع بلدانه.
2-تشابك وتعقيد النزاعات الداخلية لدول الساحل وتداخل عناصر الضّغط المحلية والخارجية يفرض رفع مستوى الحذر من وقوع أزمات أكثر لبساً وغموضاً.
3-التصدي للتدخلات الخارجية في شؤون دول الساحل الإفريقي خاصة من الدول الوظيفية خارج القارة، التي تُخفِي أجندات سياسية ومصالح ضيّقة بتدخلها المباشر أو غير المباشر.
4-بما أن الجزائر دولة حدودية مع النيجر ومالي وموريتانيا وليبيا (3700 كلم)؛ فهي أشدّ حرصاً من غيرها على إرساء معالم السّلم والسّلام في المنطقة، والدفع بها للحدّ من التوترات والنزاعات ضرورة قصوى تُمليها الظروف الأمنية الرّاهنة.
5-إقحام الجزائر في ترميم العلاقات وتذليل الصعوبات وتقريب وجهات النظر بين الفرقاء السياسيين؛ لأن دبلوماسيتها تحظى بقبول واسع لدى أطراف النزاع نظير نِيّاتها الحسنة في حلّ الأزمات، وعدم تدخلها في الشؤون الداخلية للدول؛ فهي ليس لها أطماع سياسية أو اقتصادية خارج حدودها.
6-الجزائر دولة مؤسسات وقانون وذات سيادة لا تخضع للإملاءات الخارجية، عكس كثير من الدول الإفريقية والعربية الغارقة في وحل المؤامرات والضغوطات الأجنبية، وهو ما يجعلها مُؤهّلة وموثُوقة في حل النزاعات الإقليمية والدولية.
7-الجزائر مُؤيدة للمشروع الإفريقي الرّائد الخاص بأجندة 2063 حول “إسكات البنادق في إفريقيا”، والغاية منه جعل القارة السمراء خالية من النزاعات ونفض غبار الاستعمار عن كَاهِلها.
وفي ظلّ هذه الظُّروف، زار نائب وزير الخارجية الروسي والممثل الخاص لرئيس فيدرالية روسيا للشرق الأوسط وإفريقيا، السيد ميخائيل بوغدانوف، الجزائر في الخامس عشر من نيسان/أبريل 2024م، واستقبله رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون، ورئيس أركان الجيش الوطني الشعبي الفريق أول السيد السعيد شنقريحة.
وقد أوضح الدبلوماسي الروسي، السيد بوغدانوف، خلال الزيارة الرسمية، وجود إرادة كبيرة لدى بلده روسيا في مواصلة العمل من أجل تطوير الشراكة الاستراتيجية مع جمهورية الجزائر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الأستاذ سفيان حشيفة – صحفي وكاتب سياسي جزائري
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً