الدكتور محمدعياش*
تستطيع «إسرائيل» أن تدوس بدباباتها ومركباتها وعبر قصفها المدمّر بعض الزهور والورود، لكنها لا تستطيع أن تمنع الربيع الفلسطيني القادم باندفاعة السهم الذي لا يُخطئ هدفه، وحتى هذه اللحظة لم تترك وسيلةً تدميريةً إلا واستعملتها واستخدمتها لقتل الروح الباسلة في وجدان الشعب العربي الفلسطيني.
عندما نسمع بالحرب والمشتركين فيها، تذهب ذهنيتنا إلى العسكر وزيهم وجنودها ورتبها وتسلسل الجيش من الجندي إلى أعلى القيادة ناهيك عن المعدات واللوازم المستخدمة، ما يُخرج من هذه الذهنية دولةَ الفاتيكان التي لا يوجد فيها هذا النموذج، ونذكر احتجاجات البابا غداةَ الحرب العالمية الثانية عندما سخر ستالين من الاحتجاج عندما قال:” كم فرقة يملك البابا؟”
دائما ً فلسطين استثناءٌ بكل ما تحمله الكلمة من معنى ومغزى، ذلك لمّا قامت الحرب بين روسيا وأوكرانيا المدعومة من الغرب المتواطئ، كل الظن بأن القضية الفلسطينية أصبحت ثانوية أو هامشية، وستستغل إسرائيل هذه الحرب لتنفيذ مآربها، وتحقيق أهدافها النهائية من استكمال المشاريع الاستيطانية وتهويد القدس الشريف، إلى وضع السلطة الفلسطينية تحت الأمر الواقع وبالتالي فإن كل المواثيق والمعاهدات أصبحت من الماضي وما على الفلسطينيين إلا القبول بهذا الوضع أو النزوح خارج فلسطين.
نعود لمقاتلنا الأنيق الذي ظهر برباطة جأش وأعصاب هادئة وكأنه في تصوير أفلام هوليود (الأكشن)! لكن ليس مثلهم تماما ً فهؤلاء يمثلون ويعلمون أنّهم على قيد الحياة مهما بلغت المشاهد من قسوة وخداع.. هذا النمط الجديد من القتال هو ما يعرف بالقفزة النوعية التي وصلت إليها المقاومة الفلسطينية، لأن «إسرائيل» والولايات المتحدة الأمريكية هي من أوصلت هذا الحال عند أهل غزة الذين تربّوا على العقيدة التي تقول ” لن تتحرر فلسطين إلا بأيدي شبابها ومقاوميها “، وباقي ما تبقّى يمكن أن يكون مناصراً ومتعاطفاً.. لذلك قادم الوقت القريب سيكون وبالاً على الاحتلال الصهيوني، لأن الهدوء الذي ظهر عليه المقاتل الأنيق يشي بذلك، وفي علم النفس تفسير دقيق لهذه الحالة.
رمزية المقاتل الأنيق لها دلالة لا تخطئها العين، سنقاتلكم بلباس عسكري ومن دونه بشبابنا وكبار السن، وحتى الأطفال زرعوا فيهم القوة والجسارة، والنساء بصبرهن يسطرْنَ ملحمة جديدة إلى جانب الشجاعة التي يتحلّى بها المقاومون، كل القطاع ببشره وشجره وحجره مقاوم أنيق واستثناء منقطع النظير.
يتجلى الاستثناء في كثير من الصور، على سبيل المثال، كمية المتفجرات التي سقطت في غزة، ونسبة التدمير للقطاع التي بلغت أكثر من 86% في مشهد لم نسمعه في ستالينغراد وجنوب إفريقيا وناكازاكي وهيروشيما وفيتنام وأفغانستان وبغداد.. ومع ذلك تستمر المقاومة الأسطورية مُكبِّدةً الاحتلال خسائرَ باهظةً في الأرواح والمعدات، جعلت من قادة الاحتلال يظهرون على القنوات كـالمساعير يتوعدون بممارسة كل ما هو محرّم وغير محرّم أي لا خطوط حمراء.
يخرج مقاتلنا الأنيق بلباس الحفلات والمناسبات حاملاً قاذفه راكضاً واثقاً من تحديد هدفه في شوارعَ عريضةٍ غيرَ آبهٍ لتموضع الآليات المنتشرة في ضواحي غزة المدمرة عاكساً الصورة التي عليها البلاد من دمار بصورة قد تكون مادة حيوية لرسّامي العالم والمصورين ولستُ متأكداً أني رأيت صورة المقاتل الأنيق بقاذفه على صفحات الصحف والمجلات الغربية في حالة من الإعجاب، وأعتقد أن هذه الظاهرة الفلسطينية ستجد طريقها للمراكز الاستراتيجية المعنية بقراءة النهايات للظلم والجَور، لأنها ستضحي رمزاً ثابتاً مع الثوابت السابقة لعدالة القضية الفلسطينية التي تتقدّم يوماً بعد يوم نحو تحقيق الهدفِ الأسمى، تحريرِ فلسطين من النهر إلى البحر.
فاقت هيبة المقاتل الأنيق، هيبة المحكمة الدولية (لاهاي) هو اختصرها بالعمل وهم بالقول، ليس لديه وقت للتردد في تحقيق قراراته، بينما المحكمة تجلس في صالونات شاهقة تقلّب الأوراق وتدرس ما فيها بعناية؛ ولكن قراراتها لا تتوازى مع المأساة الفلسطينية وإن كانت صوريتُها خطوةً تُعدّ إيجابيةً بالحد الأدنى، فمقاتلنا الأنيق لم ولن يكون يوماً من الأيام يعوّل على هذه القرارات.
أكثر من خمسةٍ وسبعين عاماً كافية لقراءة سردية المقاتل الفلسطيني الذي وُصِمَ بالمُخرِّب في بداية الصراع، في محاولة لطمس الحق بالمقاومة ومقارعة الاحتلال المدعوم من أعتى القوى العالمية، وبالتالي فإن الحقائق والمعطيات أكّدت أحقيّة هذا المقاتل الذي وصُف بالمخرب الأسمر الأشعث الأغبر الموصول بجيناته إلى غولياث العملاق، وتعلقه بأرضه وأرض أجداده. والأناقة في قتال العدو مدى القناعة الراسخة بضعف وهشاشة الكيان الصهيوني وحتمية إزالته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور محمد عياش – كاتب وباحث سياسي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً