بقلم الدكتور مصطفى يوسف اللداوي*
ما من حكومةٍ إسرائيلية يمينيةٍ متطرفة أو عماليةٍ يسارية وما بينهما مما توصف بأنها يمين الوسط، إلا كان مجلسها الوزاري الأمني المصغّر “الكابينت”، المعروف بأنه المجلس الذي يعنى بصناعة واتخاذ أهم القرارات الأمنية والعسكرية في الكيان، ويرأسه رئيس الحكومة، ويشارك فيه إلى جانب وزير الأمن ورئيس أركان الجيش ورؤساء الأجهزة الأمنية المختلفة، عددٌ آخر من الوزراء المعنيين، إلا كان يتطرّف في قراراته، ويتشدّد في سياساته، ويهدّد ويتوعّد ويفرط في استخدام القوة، ويقرّر اتخاذ إجراءاتٍ حازمةٍ وعقوباتٍ رادعةٍ ضد المقاومين الفلسطينيين ومموّليهم ومن يقف خلفهم ويحرّضهم، وينظّم عملياتِهم ويوجّه عناصرهم.
فما من عدوانٍ قام به جيش الاحتلال، حرباً واجتياحاً، أو مداهمة واقتحاماً، أو عملية عسكرية أو أمنية نفّذتها وحداتهم الخاصة، إلا كان المجلس الوزاري الأمني المصغّر هو الذي قرّر القيام بها، وأعطى الضوء الأخضر بتنفيذها، بما في ذلك عمليات الاغتيال والتّصفية الجسدية داخل فلسطين المحتلة أو خارجها، واعتقال القادة والرموز الشعبية الفلسطينية، وغير ذلك من القرارات الحسّاسة والتي تكتنفها مخاطرُ شديدة، مع التأكيد على محوريّة شخص رئيس الحكومة ومسؤوليته المباشرة عن كل القرارات الصادرة، كونه صاحب الصلاحية الحصرية في التوقيع النهائي على القرارات والتوصيات، قبل المباشرة في تنفيذها.
لا يبدو أن مجلس الوزراء الأمني المصغّر لحكومة نتنياهو اليمينية المتطرّفة يختلف عن سابقيه، بل هو صورة طبق الأصل عنهم، فالذين اتخذوا قراراتٍ باغتيال وتصفية قادة الفصائل الفلسطينية والعربية والإسلامية في الداخل والخارج، وملاحقة المطلوبين وقتلهم، واستهداف العقول والطاقات الفلسطينية، وتنفيذ العمليات الخاصة، هم أنفسهم الذين اجتمعوا يوم أمس وقرروا استئناف عمليات التّصفية والاغتيال التي بدأ بها أسلافهم، وكلفوا رئيس حكومتهم بنيامين نتنياهو ووزير أمنه يؤاف غالانت بملاحقة المتورّطين في أعمال المقاومة وقتلهم، سواء أكانوا في فلسطين المحتلة أم خارجها.
كما لا يبدو أنّ قراراتِ “الكابينت” الإسرائيلي جديدة أو مختلفة، رغم حملة التهويل والتهديد التي صاحبتها، والتظاهر بأنها ستحقق الأمن لهم وستردع “أعداءهم”، وسيستعيد بها الجيش والأجهزة الأمنية السيطرة على المناطق الفلسطينية التي تشهد توتّراً وتصاعداً في العمليات العسكرية، فهي جميعها صورة طبق الأصل عن قراراتهم السابقة، التي نجحوا في تنفيذ بعضها وفشلوا في أكثرها، فلماذا يظنون أنها اليوم قادرة على تحقيق ما لم يستطيعوا تحقيقه في السنوات الماضية، فهي لم تُجْدِهم نفعاً قديماً، ولم تحقق لهم السيطرة والتفوق، ولم تستطع أن ترهب المقاومة وأن تخيفها، ولم تتمكن من إخمادها والسيطرة عليها، فما الذي تغيّر وتبدّل حتى يعتقدوا أن نتائجها ستكون مختلفة، وستكون هذه المرة لصالحهم وستردع الفلسطينيين وتضعفهم.
فهل استطاع السور الواقي الذي يهددون بتكراره أن يجتث المقاومة من الضفة الغربية، وأن يحقق الأمن للمستوطنين الإسرائيليين، رغم أنّه كان اجتياحاً شاملاً شمل كل أرجاء الضفة الغربية، وأخضعها لإدارته العسكرية من جديد، وقام خلالها بعمليات اعتقال وتصفية واسعة، شملت عدداً كبيراً من قادة المقاومة ورموز العمل السياسي والنضالي الفلسطيني.
وهل أجدت سياسة جز العشب التي استهدفت المقاومين والمطلوبين للأجهزة الأمنية، وكذلك عمليات الاغتيال الواسعة التي نفذها أرئيل شارون في الضفة الغربية وقطاع غزة.
وهل استطاعت عملية كاسر الأمواج -التي ما زال جيش الاحتلال ينفّذها ويواصل عملياته بموجب السياسات التي وضعها- كبحَ جماح المقاومين وتفكيك خلاياهم ونزع سلاحهم؟
وهل نجحت السياسات القمعية وحملات البطش والتنكيل التي لجأت إليها الحكومات السابقة، وأوصت بها المجالس الوزارية المصغّرة، في دفع الشعب الفلسطيني لليأس والقنوط، والتوقّف عن أعمال المقاومة؟
ألا يرى العدو الإسرائيلي ووزراؤه الحمقى الجهلاء، أنهم ما قتلوا قائداً إلا جاء أعظم منه وأقوى، وما اغتالوا مقاوماً إلا خَلَفَه عشراتٌ آخرون أشد بأساً وأقوى شكيمةً وأصلب عزيمةً، وأنهم مهما حاولوا إطفاء جذوة المقاومة في منطقة إلا استعرت ناراً في أخرى، واستحالت جحيماً يحرقهم في غيرها.
ألا يرَون أنّ المقاومين لا يخشَون الشهادة بل يسعَون إليها ويتنافسون عليها، وأنهم لا يخافون المواجهة بل يسرعون نحوها ويستعدون لها، وأنهم يخرجون من بيوتهم، يودّعون أطفالهم، ويقبّلون أيادي آبائهم ، وهم في طريقهم لتنفيذ عملياتهم، وهم يعلمون يقيناً أنهم لن يعودوا منها إلا شهداءً أو أسرى، فهل رأوا مقاوماً يخاف من تهديداتهم وترتعد فرائصه من قراراتهم، أفلا يرون أن أعداد المقاومين في ازدياد، وأنهم شبانٌ يتنافسون، ورجال يسارعون، وأن جذوة المقاومة تتسع مساحةً وتتضاعف أعدادها، وأن قتلى الجنود والمستوطنين في تزايدٍ ملحوظٍ، وقد باتوا يخشون من بأس المقاومة وجرأتها، ومن مفاجآتها وقدراتها.
لعل الخائف الهَلِع، الجبان الجَزِع، القلق المضطرب، هو العدو الإسرائيلي لا الشعب الفلسطيني، فما تهديدات العدو هذه إلا تعبيرٌ عن قلقهم وخوفهم، ونتيجة لأزمتهم الداخلية وصراعاتهم البينيّة، وهروب إلى الأمام من مصيرٍ أسودَ يترقّبهم ومستقبلٍ مظلمٍ يتهدّدهم، فظنّوا بعد أن خابت أجهزتهم و عجز جيشهم عن تحقيق الأمن لمستوطنيهم، وفقدت حكومتهم سيطرتها وتشتّت قرارها، أنّ الحرب النفسيّة قد تنفعهم وتنقذهم من مأزقهم، وقد تخيف الفلسطينيين وتردعهم، وما علموا أن الفلسطيني لا يخاف التهديد ولا يخشى الوعيد، وأنه يتمنى الشهادة ولا يهرب من المواجهة، وهو الذي يهددهم ويتوعدهم، ويترقبهم ويترصدهم.
= = = = =
*الدكتور مصطفى يوسف اللداوي – كاتب وباحث سياسي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً