بقلم الدكتور آصف ملحم*
تتصاعد أزمة اللاجئين بين روسيا وفنلندا يوماً بعد يومٍ؛ فوفقاً لما ذكر حاكم مقاطعة مورمانسك الروسية الشمالية، السيد أندريه تشوبيس، أنه حتى يوم 22 نوفمبر تجمّع حوالي 300 شخص من أكثر من 10 دول أفريقية وشرق-أوسطية عند معبر (سالّا) البري للدخول إلى فنلندا، ولكن السلطات الفنلندية تمنع دخولهم حتى لحظة كتابة هذه المقالة. ويكاد الأمر يتحول إلى كارثة إنسانية، خاصةً في برد الشمال القارس، وفق تعبير حاكم المقاطعة. ووفق بعض المصادر الصحفية الروسية، فإن سلطات المقاطعة تعمل ما بوسعها للحفاظ على حياة المهاجرين، فهي تقدّم لهم الطعام والشراب وأمكنة الإقامة.
في الواقع، تحادد فنلندا روسيا في مقاطعتين وجمهورية، وهي من الشمال إلى الجنوب: مقاطعة مورمانسك، جمهورية كاريليا، مقاطعة لينينغراد. وعلى امتداد الحدود من الشمال إلى الجنوب، توجد تسعة معابرَ برية بين روسيا وفنلندا، وهي على الترتيب: رايا-يوسيبي، سالّا، كووسامو، فارتيوس، نييرالا، إيماترا، نوياما، فاينيكّالا، فاليما. وهناك أيضاً معابرُ نهرية وبحرية، إضافةً إلى المطارات.
أغلقت السلطات الفنلندية المعابر البرية التالية: نييرالا، إيماترا، نوياما، فاليما ابتداءً من 18 نوفمبر الجاري. كما أنها أغلقت المعابر التالية: سالّا، كووسامو، فارتيوس ابتداءً من 25 نوفمبر الجاري. علاوةً على ذلك، وفق ما أعلنت القناة MTV3 الفنلندية، فإن السلطات هناك قد تغلق كامل حدودها مع روسيا.
هذه الوقائع جميعها تؤكد أن العلاقات الروسية-الفنلندية في تدهور متصاعد، وتعكس حالةً من عدم الثقة بين الطرفين بدأت بالتنامي منذ انضمام فنلندا إلى حلف الناتو؛ ولكن تتم هذه المواجهة الآن بينهما باستخدام ورقة اللاجئين.
في الواقع، لا تستطيع روسيا منع الراغبين بالعبور إلى فنلندا إذا كانت أوراقهم الرسمية صحيحة من وجهة نظر القانون الروسي المتعلق بإقامة الأجانب على أراضيها. وفي روسيا، هناك إجراءات قانونية واضحة بحق المخالفين، قد تبدأ بالغرامات المالية وتنتهي بالترحيل خارج البلاد. كما أن ادّعاء السلطات الفنلندية بأنّ روسيا هي من اختلقت هذه المشكلة يجانب الصواب تماماً!
في الحقيقة، كل من يرغب في زيارة روسيا من الأجانب يستطيع ذلك إذا تقدّم بالوثائق المطلوبة إلى السفارات والقنصليات الروسية في بلده. في الوقت ذاته لا يمكن للسلطات المعنية بالهجرة التدخل في نوايا هذا الشخص للتأكد من أنه سيقيم في روسيا أو سيغادر إلى بلد ثالث. فضلاً عن ذلك، فإن مطالبة روسيا بسن قوانين تمنع المواطنين من دخول أراضيها بناءً على (الاعتقاد أو النية) بأنّ هذا الشخص جاء عابراً من روسيا إلى فنلندا يخالف فلسفة القانون نفسه، وهذا يفهمه جميع فقهاء القانون في العالم؛ إذ كيف يمكن معاقبة شخص بجرمٍ أو جنحةٍ بناءً على الاعتقاد بأنه سيرتكبها؟!
فضلاً عن ذلك، لا أعتقد أنّ عاقلاً يمكنه تصديق دعوى فنلندا بأن روسيا هي من تدفع اللاجئين إلى الحدود، أو هي من تسهّل مجيئهم إلى روسيا للعبور لاحقاً إلى فنلندا، وهذا بديهي الوضوح!
من ناحية أخرى، للراغبين في اللجوء إلى روسيا، أو الإقامة المؤقتة أو الدائمة، يوجد قوانين واضحة وكل من يرغب في ذلك يمكنه التقدم بطلبه إلى الجهات المختصة للحصول على اللجوء أو الإقامة إذا رغب في ذلك.
استناداً إلى ما تقدّم، فإننا نعتقد أن فنلندا هي من تحاول اختلاق هذه المشكلة، والقرائن على ذلك كثيرة، أهمها:
1- حتى الأمس القريب كانت جميع المعابر البريّة تعمل بشكل طبيعي، وكان العبور بين البلدين لا يختلف عن الحركة ضمن البلد الواحد.
2- لا يخلو الموقف الفنلندي من ازدواجية المعايير في التعامل مع اللاجئين؛ فاللاجئون الأوكرانيون مرحّب بهم دائماً مقارنة مع الجنسيات الأخرى.
3- تخالف فنلندا قوانين الاتحاد الأوروبي، التي تنصّ على ضرورة النظر في كل طلب لجوء حتى لو لم يكن لدى مقدم الطلب تأشيرة، ولا يجوز ترحيل المهاجر فورياً خارج البلاد.
4- تحاول فنلندا ممارسة الضغط الأخلاقي والقانوني على روسيا؛ بمنع المهاجرين من الدخول، لكي تقوم الأخيرة بإجراء ما ضد اللاجئين، وبالتالي تحميلها مسؤولية ما قد يحدث لهم. لأن السلطات الروسية ستضطر لتطبيق القوانين المعمول بها عند انتهاء صلاحية تأشيرات أو إقامات هؤلاء المهاجرين.
قبل الختام، ثمة ملاحظة هامة، لا بدّ من التعريج عليها! تشير التحقيقات الصحفية إلى أن المهاجرين يفضّلون العبور إلى دول الاتحاد الأوروبي عن طريق روسيا، على الرغم من أن الطريق أطول وأكثر كلفةً، لأنه طريق بريّ؛ بالتالي هو أكثر أماناً من استخدام القوارب في البحر الأبيض المتوسط.
ختاماً، يتّضح مما سبق أن هلسنكي تحاول استثمار ورقة المهاجرين لابتزاز موسكو سياسياً، دون أخذ حقوق الإنسان واللاجئين بعين الاعتبار؛ بالرغم من أن الدول الغربية استخدمت (حقوق الإنسان) ذريعة لغزو دول كاملة، والحروب التي خاضها الغرب في العقود الأخيرة خير دليل على ذلك!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور المهندس آصف ملحم – مدير مركز جي اس ام للأبحاث والدراسات.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً