بقلم الدكتور جوزيف مجدي*
إنّ ما حدث بين بوتين ورئيس شركة فاغنر، بريغوجين، ليس حدثاً عابراً على الإطلاق؛ فاللعبة ذكية وكاشفة لكيفية إدارة عملية إنقاذ دولة ونظام سياسي بأساليب استخباراتية ذكية، في ظل تحوّلات عالمية من نظام أحادي لنظام ثنائي القطب، وخاصة في مرحلة استثنائية تحكمها أجهزة مخابرات عالمية.
أصبحت السياسة العالمية أشبه بلعبة المتاهة والغلبة فيها لمَن يملك المعلومة والحدس والتقنية؛ فلا معنى لقوة دولة أو نظام أو جيش في ظل انهيار المعايير بين الجيوش النظامية والميليشيات المرتزِقة بدون أن تمتلك الذكاء والتقنية والقدرة على وضع كامل السيناريوهات، وصياغة كل الاحتمالات و ردّات الفعل فوق رقعة الشطرنج الجيوسياسية العريضة. فلا بقاء لدولة دون خيالٍ خصب وإبداع مخابراتي وتقني محترف وحديث وذكي. فلو لم يمتلك بوتين كل هذا الخيال لسقط أمام طباخه بريغوجين رئيس على الطريقة السودانية.
إن كل من سيحمل السلاح في وجه جيش أو نظام سياسي شرعي سيتم دعمه بالشرعية واللوجيستيات المطلوبة؛
فالناتو و وكالة المخابرات الإنجليزية كانت ستدعم بريغوجين لو تحرك نحو موسكو، وخاصة بعد الإعلان عن التفاوض بعد الوصول لبعض المواقع النووية الروسية. لكن الرئيس بوتين كرجل مخابرات محنّك وسياسي داهية يعرف جيداً طريقة تحضير العفريت وصرفه؛ فالمخابرات الروسية كانت تحاصر فاغنر تماماً في الخارج.
لم يترك بوتين شيئاً للصدفة، قبل وأثناء الأزمة، فقد استخدم علاقته الشخصية الاستراتيجية مع أردوغان كأبرز حليف له داخل الناتو والبحر الأسود، وكل ما طلبه بوتين من أردوغان، في المكالمة الهاتفية التي ترافقت مع الأزمة، تم تنفيذه، و خاصة كل الدرونات والرادارات و الطائرة الانتحارية المطلوبة لحماية موسكو. كانت تركيا ودول أخرى حليفة حائط صدٍّ ضدَّ أي تدخل من مخابرات الناتو مع أي تمرد داخل موسكو. لم ينسَ أردوغان تعاون المخابرات الروسية معه في أزمة الانقلاب العسكري؛ فبين أردوغان وبوتين تحالف استراتيجي قوي وردُّ جميل. لذا بوتين كان يحاصر بريغوجين تماما في الخارج؛ وكلّ من كان يتحرك في اتّجاه فاغنر أو في الاتجاه المعاكس كان حليفاً أو صديقاً لبوتين؛ فالمخابرات التركية والجزائرية والخطوط الحمر في ليبيا كلها كانت حصاراً على فاغنر؛ حتى المربعات التي تحركت فيها قوات فاغنر بالتنسيق مع المخابرات الإماراتية كانت تحت تنسيق بوتين.
لذلك، وبعد اللعب لدقائق مع القيصر، وجد بريغوجين نفسه محاصراً من كل اتّجاه، أو كمن يقبض على الريح. لدى بريغوجين الشعبية الوطنية، لكنها لا تلغي شعبية القيصر؛ فلم ينزل أحد إلى الشارع، وكان الإخراج الأخير للأزمة إخراجاً سليماً بعرض الأمر على أنه خلاف على رؤىً وطنية ومهنية؛ خاصة حول كفاءة الجنرال شويغو وزير الدفاع الروسي. وزير الدفاع شويغو مثل بريغوجين صديقان للرئيس، فليكن ما حدث مجرّد خلاف بين أصدقاء الرئيس، فحصار بوتين والمخابرات الروسية لفاغنر في الخارج، واختراق الناتو من الداخل بعلاقة استراتيجية مع تركيا، أغلق ملف دعم أي معارضة روسية داخلية، وضرب أي أهداف أو محاولة الاقتراب من موسكو.
= = = = =
*الدكتور جوزيف مجدي – طبيب و شاعر و كاتب سياسي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً