بقلم الدكتور آصف ملحم*
كتب الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط في عام 1795: (لا يتحقّق السلام الدائم إلاّ بوساطة المفاوضات أو بوساطة حرب إبادة بين الطرفين، تُخلّف مقبرة بشرية ضخمة). تاريخياً: البشرية أكثر ميلاً للخيار الثاني؛ فإذا لم تُجبِر العمليات الحربية المدمّرة الأطراف المتحاربة على الجنوح إلى الاتفاق والمفاوضات، فإنّ هذه الحرب ستستمر. ومع ذلك، فإن الجنوح إلى المفاوضات يتطلب قياداتٍ حكيمةً وشجاعةً تضع حدّاً لسفك الدماء.
تمكّنت الآلة الإعلامية الغربيّة من تحويل الرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي، إلى بطل قومي؛ لدرجة أنّ (ميتش ماكونيل)، زعيمَ الجمهوريين في مجلس الشيوخ الأمريكي، لقّب زيلينسكي بـ (القائد المُلهَم)، أثناء زيارة الأخير إلى واشنطن في ديسمبر الماضي. هذا النفخ المستمر في أنف زيلينسكي لم يُوقِع أوكرانيا وحدها في ورطة، بل أوقع الدول الغربية في مأزق حقيقي، وأدخلها في نفق مظلم طويل، لا تبدو أنَّ نهايته قريبة.
يقوم زيلينسكي بدوره على أكمل وجه، فهو ممثل سابق، ويدرك جيداً كيفيّة صناعة الصورة المثيرة، التي تساعد في رفع درجة التأييد له في الشارع الغربي، وبالتالي استجرار المزيد من المساعدات العسكرية؛ فبالرغم من ظروف الحرب، تمكّن هو وزوجته من التقاط بعض الصور لمجلة Vogue المتخصصة بالموضة والأزياء!
وبالرغم من هذا وذاك، فالرئيس الأوكراني أمام مأزق كبير؛ إذ أنه لا بدّ من وضع حدّ لهذه الحرب عن طريق المفاوضات، التي ستؤدي بالتأكيد إلى (تسوية غير تامة)؛ فالرئيس الأوكراني رهين النخبة الحاكمة المحيطة به من جهة، كما أنه رهين الشارع الأوكراني من جهة ثانية.
عادةً، الشارع أكثر ميلاً للحرب من النخبة الحاكمة، لأنه أكثر مزاجية، كما أن النخبة الحاكمة تدرك جيداً الكلفة الكبيرة للحرب والأبعاد الحقيقية للصراع. المعضلة الكبرى في حالة زيلينسكي أن الشارع الأوكراني والنخبة الحاكمة تريدان الاستمرار في الحرب، بهدف تحقيق نصر استراتيجي على روسيا، وهذا الخيار تدعمه الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية. ولكن من سوء حظ هؤلاء أن هذا الهدف صعب المنال، في المدى القريب والمتوسط على الأقل!
يبدو أن الولايات المتحدة بدأت تدرك أن الأزمة الأوكرانية وصلت إلى طريق مسدود، خاصة بعد زيارة الرئيس الصيني إلى روسيا وبروز الصين كلاعب دولي جديد، حَزَمَ خياره لصالح موسكو!
علاوة على ذلك، تؤكّد العديد من المصادر الصحفية أن الرئيس زيلينسكي في خطابه الأخير أمام قمّة الاتحاد الأوروبي كان شديد الانفعال إلى درجة بلغت حدّ الهستيريا، لذلك لم يتم نشر خطابه في وسائل الإعلام. وهذا يؤكد أن الرجل شعر بأنّه دخل في لعبة أكبر من حجم أوكرانيا نفسها، فأصبح في ورطة كبيرة؛ فلا هو قادر على المضي في اللعب ولا هو قادر على الانسحاب!
على هذه الخلفية، يبرز العرض الذي أطلقه ماريو ليولا، المستشار السابق في البنتاغون والأستاذ في جامعة فلوريدا الدولية، في مقالة طويلة منشورة في مجلة “The Atlantic” الأمريكية.
هذا العرض، في الحقيقة، أشبه بالصفقة السياسية-التجارية تعترف أوكرانيا والدول الغربية بموجبها بسيادة روسيا على المناطق التي ضمّتها مقابل تعويضات مالية لأوكرانيا.
في الواقع، يعتبر هذا العرض بمثابة رسالة للعالم بأن الولايات المتحدة تسعى إلى (تسوية عادلة) في أوكرانيا
وتريد إيجاد نهاية لهذه المسألة؛ فهم لا يريدون تكرار السيناريو الأفغاني المهين، إذ أنهم حضّروا أوكرانيا طويلاً لهذه الحرب، وبالتالي يريدون الخروج بشكل يحفظ لهم ماء الوجه.
من حيث الشكل، هذا العرض هو برهان جديد على أن أوكرانيا تخضع للإملاءات الأمريكية، وهذا اعتراف أمريكي واضح بأن أوكرانيا هي رهينة بين أيديهم، وأنّهم يتحكمون بالقرار الأوكراني والنخبة الحاكمة هناك.
في الحقيقة، يتصرف الأمريكيون كما لو أنّ العملية العسكرية الروسية تجري على الأرض الأمريكية، وليس على الأرض الأوكرانية، وبالتالي يعطون لأنفسكم الحق بتقديم مثل هذا العرض، وكأنّ روسيا يمكن أن توافق على مثل هذه الصفقة المُهينة!
لذلك يبرز السؤال:
من يجب أن يدفع التعويضات للآخر، روسيا أم أوكرانيا ومن خلفها الدول الغربية؟
روسيا تقوم بإعادة تأهيل المدن والبلدات التي دمرها النازيون الجدد بأسلحة أمريكية وغربية، وبالتالي أليس من حق روسيا في هذه الحالة أن ترفع الصوت وتطالب الولايات المتحدة والدول الغربية بتعويضات؟
فعندما يبرز السؤال: هل شبه جزيرة القرم أرض روسية أم أوكرانية؟
يجيب سكان القرم أنفسهم عن ذلك بوضوح كما يلي: نحن نتلقى رواتبنا من روسيا، وروسيا صرفت الكثير من الأموال في إعادة تأهيل البنية التحتية والمرافق العامة، من روضاتٍ ومدارسَ وجامعات ومشافٍ وغيرها، وهذه الأموال خرجت من الميزانية الروسية الحكومية!
وبالتالي فالنتيجة واضحة، القرم أرض روسية.
فضلاً عن ذلك، من سيعوّض سكان الدونباس عن معاناتهم وعذاباتهم منذ عام 2014؟
ألم تكن الدول الغربية نفسها، وتحديداً فرنسا وألمانيا، هي الراعي لاتفاقيات مينسك، التي تبيّن لاحقاً أن رعايتهم لها كانت مجرد مراوغة وخداع، وتشهد على ذلك تصريحات المستشارة الألمانية ميركل والرئيس الفرنسي ماكرون؟!
بناءً على ذلك، لا يمكن لروسيا أن تُلدَغَ من الجحر ذاته مرة أخرى، وبالتالي أي حديث عن الدبلوماسية مع الغرب لا معنى له، فالثقة مع الأطراف الغربية معدومة تماماً. وروسيا حددت خياراتها بوضوح، وهي تعمّق وترسّخ علاقاتها في الفضاء الأوراسي الكبير، مع دول موثوقة كالصين والهند وإيران والعالم العربي!
لذلك، فنحن أمام محاولة أمريكية يائسة وبائسة لتحصيل ما يمكن تحصيله في هذه الصفقة، لأننا نعلم أن هذه (الأموال المفترضة) ستدفعها أوكرانيا لاحقاً للولايات المتحدة ثمناً للأسلحة التي قدمتها وتقدمها. إلا أنه من المؤكد أن واشنطن ستخرج من هذه الصفقة بخُفَّي حُنَين، وستكون القيادة الأوكرانية أمام تسوية غير تامّة، ستضعها موضع سخرية أمام شعبها وأمام شعوب العالم، لا بل ستضع مستقبل أوكرانيا كلها في مهبّ الريح.
= = = = =
*الدكتور المهندس آصف ملحم – مدير مركز جي اس ام للأبحاث والدراسات
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً