بقلم الدكتور عبدالله العبادي*
تعتبر الدبلوماسية مهمة عسيرة لراسمي السياسات الخارجية، وهي في كل الحالات تعبير عن حجم الدولة ومكانتها، وأيضاً تحدّد الديناميكيات المتحركة لحل القضايا حتى تلك المستعصية على الحل.
في كل جانب من هذا الكون، هناك أنظمة قد أطالت أمد النزاعات وجعلتها أكثر قبحاً، وتتاجر بها، وفرّقت شعوباً ودولاً وأضاعت فرصاً كثيرة للبناء الجماعي والإقليمي.
لما قال الملك محمد السادس: “إن قضيتنا الوطنية هي المنظار الذي نقيس به علاقاتنا مع الآخر”، تحركت الدبلوماسية المغربية على أساس هذا الخطاب، وغيّرت من قواعد الاشتباك الدبلوماسي الخارجي، نصرةً للقضايا الاستراتيجية للمملكة، وفي مقدمتها قضية الوحدة الترابية.
بعد سنتين عجاف في العلاقات المغربية الفرنسية، وصل أول أمس إيمانويل ماكرون إلى الرباط، ليدشن زيارة دولة استثنائية، ولأول مرة يؤكد المتتبعون حصول تحولات عميقة تهم موقع المملكة داخل دهاليز التفاوض؛ إذ انتقلت من موقع رد الفعل إلى الفعل، وهي القاعدة التي تبنّتها مع الحلفاء والخصوم على حد سواء فيما يخص القضية الوطنية.
الزيارة التي حددت الرباط تاريخها، وليس كما حاول الإليزيه في السابق فرض قواعد تحديد الزمان على الأقل، هذا ما يضعنا أمام تغير المعادلة، أي وضع الحدث وفق المحدد الكلاسيكي لما يربط المملكة بالجمهورية، وفق قواعد مغايرة لما أفرزته حقبة الاستعمار.
المملكة ومنذ اثني عشر قرناً، ورغم الصراعات ومراحل ضعف عرفتها على مر التاريخ، لم تسمح لأحد أن يتحكم أو يرسم سياساتها الخارجية أو الداخلية. لذا لم تترك المملكة للآخرين سلطة اختيار حلفائها ولا تصنيف خصومها.
كما أعتقد، من خلال فهم مجريات الأحداث، أن المغرب فرض شروط هذه الزيارة من منطلق اختياره لعاملَي التاريخ والجغرافيا، التوقيت مناسب جداً، في وقت تخسر فرنسا كثيراً في إفريقيا، والمغرب يكسب الكثير في أدغال القارة بتوغل اقتصادي واستثماري كبير.
إذن قواعد اشتباك الرباط الخارجية تغيرت وفق أسس جديدة تعتمد فيها المملكة على عوامل كثيرة، أهمها الاستثمار في التنمية والاستثمار في الاستقرار في إفريقيا، في احترام تام للسيادة الوطنية للآخرين، وأيضاً العمل على التقارب الثقافي والاجتماعي الذي تحتاجه الشعوب الإفريقية وغيرها من المجتمعات في ظل صراعات مدمرة.
فرغم التقارب المغربي مع فرنسا وأمريكا، تحافظ المملكة على شراكاتها المتقدمة مع بكين وموسكو، ووقوفها بحياد إيجابي تجاه عدد من الملفات التي تساهم في حلها، دون المساس بسيادة أي دولة.
فرنسا اليوم تزور المغرب، وقوى سياسية عميقة في الإليزيه تكلف ماكرون بربح مكاسب كثيرة ليس في المغرب فقط بل في إفريقيا كلّها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور عبد الله العبادي – كاتب صحفي، محرر الشؤون العربية و الأفريقية في صحيفة الحدث الأفريقي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً