بقلم الأستاذ علي سليمان*
مع مطلع عام 2011 شكّلت التحولات السياسية التي عصفت بالمنطقة العربية، انطلاقاً من تونس ومصر وليبيا وغيرها من الدول، حالةً من عدم التوازن في الوسط السياسي الإسرائيلي. كانت إسرائيل تراقب الأحداث بقلق شديد وأبدت معارضةً واضحةً لهذه التحولات في تونس ومصر رافضةً المطالب بإسقاط أنظمتها الحاكمة، باعتبار هذه الأنظمة جزءاً من محور “الاعتدال”، وانهيارها يهدد بخسارة اسرائيل للبيئة الإقليمية الأمنية.
ومع وصول هذه التحولات السياسية إلى سورية أبدت إسرائيل اهتماماً كبيراً بتطوّر الأحداث هناك وما قد تؤول إليه، نظراً لمكانة سورية المركزية وثقلها المعنوي والمادي، كونها إحدى دول الطّوق ولا ترتبط مع اسرائيل بمعاهدة سلام كما هو الحال مع مصر. علاوةً على ذلك، سورية دولة محوريّة في المشرق العربي ولها تأثير كبير على مجمل الوضع الجيوسياسي في المنطقة.
بالرغم من ذلك، اكتنفت الجانب الاسرائيلي حالةٌ من الصمت والغموض في بدايات الأزمة وخلال السنة الأولى. برّرت النّخبة السياسية الاسرائيلية هذا الصمت بجملة من المخاوف وهي:
-قلق من عودة الاضطرابات إلى الحدود مع سورية بعد أن ساد الهدوء فيها نحو أربعين عاماً بموجب اتفاق فضّ الاشتباك لعام 1974.
-الخوف من التّيارات الإسلامية المتشدّدة وماقد يتبع ذلك من فوضى السلاح وانهيار الهدنة في الجولان.
-القلق من أن تُمتّن الأزمة وشائج العلاقات بين سورية وحلفائها مما قد يعزّز قدراتها العسكرية ويزيد احتمالات مواجهة مستقبلية غير مضمونة النتائج.
من جانب آخر، رأت بعض النّخب الإسرائيلية أنّه لابدّ من اقتناص الفرصة سريعاً والمعاجلة في الإسهام باسقاط الدولة السورية مبرّرة ذلك بالعقيدة العدائية السورية تجاه اسرائيل، والتّمسك السوري بالموقف الرافض للشروط الاسرائيلية المتعلقة بعملية السلام. كما أنّ سورية تمثّل القاعدة الخلفية لحزب الله، وقد تؤدي الأزمة السورية إلى اكسابه مزيداً من السلاح النوعي والدّعم اللوجستي، الأمر الذي قد يخلخل الّتفوق الاستراتيجي على الحدود الشمالية.
فضلاً عن ذلك، فقد رأت إسرائيل أنّ سقوط النظام السوري يعطي حرية الحركة في توجيه الضربات الاستباقية واستنزاف الخصوم دون أن تلزم نفسها بحروب شاملة؛ فسورية أهم الدول المتحالفة مع إيران، كما أنها تناهض السياسات الأمريكية في المنطقة.
تبلور الموقف الإسرائيلي تدريجياً خلال الأعوام الأولى للأزمة السورية؛ حيث بدأت إسرائيل تتخذ مواقف أكثر انسجاماً مع المواقف الأمريكية والأوروبية. بدأت إسرائيل تروّج إعلامياً أمام المجتمع الدّولي بأنّها دولة ديمقراطية وأنّ عدم الاستقرار في المنطقة لاينبع من الصراع الإسرائيلي-العربي، بل من الصراعات الداخلية التي تعاني منها دول المنطقة بسبب الظروف السياسية والاقتصادية والتناقضات العرقية.
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى الخشية الكبيرة عند الجانب الإسرائيلي من فقدان السيطرة على المخزون السوري من الأسلحة الكيميائية والبيولوجية، وبالتالي وقوعها بيد منظمات إرهابية أو انتقالها إلى قوى معادية لإسرائيل، الأمر الذي قد يهدّد الأمن القومي الاسرائيلي.
تعمّقت هذه المخاوف الإسرائيلية وانتقلت إلى الدول الغربية الحليفة لإسرائيل وأصبحت إحدى المحددات الرئيسية في موقفها من الأزمة السورية.
ومع مطلع عام 2013، بدأت مرحلة جديدة، اتخذت فيها إسرائيل خيار التدخل المباشر في الشأن السوري والمساهمة في رسم المشهد الاقليمي، من خلال شنّ غارات جوية متكررة واستهداف مراكز حيوية في العمق السوري بذريعة ضرب المجموعات الإيرانية، التي تنقل الأسلحة إلى حزب الله.
من هنا يتّضح جليّاً كيف استفادت اسرائيل من المناخ السوري المضطرب، وكيف بدأت بإضعاف الجيش السوري الذي بنى قوته من أجل مواجهتها؛ إذ تم تفكيك ترسانته الكيميائية والبيولوجية تحت الضغط الدولي، وحُيّدت منظومات الدفاع الجوي ليتمّ لها استباحة سماء سورية بحريّة مطلقة، هذا بالإضافة إلى العقوبات الاقتصادية الخانقة.
على هذه الخلفيّة، يمكن القول أنّ إسرائيل حققت مكاسب عديدة، سنستعرضها تباعاً:
-إطالة أمد المواجهات في سورية دون حسمها لصالح أحد الأطراف، وشكّل ذلك استنزافاً للقدرات العسكرية السورية، الأمر الذي قد يساعد في إخراج سورية من معادلة الصراع مع إسرائيل، ويُضعِف موقفها السياسي المتعلق بالتسويات الداخلية.
-إحداث تغيير في موازين القوى في المنطقة من خلال تفكيك علاقات سورية وتحالفاتها الإقليمية، وتحجيم الدور الإيراني الذي يمثّل رأس المثلث في الحلف المقاوم. وهذا ما تؤكّده مقابلة صحفية لرئيس الهيئة السياسية والأمنية في وزارة الدفاع الإسرائيلية، عاموس جلعاد، مع صحيفة يديعوت أحرونوت، والتي قال فيها: (تفضّل إسرائيل سيطرة جبهة النصرة على بقاء النظام السوري، ولو تفككت الدولة السورية إلى دويلات طائفية، الأمر الذي سيؤدي إلى استقرار تنظيم القاعدة في إحداها، فإنّ التهديد الذي سيشكّله التنظيم لايقارن بالتهديد الذي يشكله محور إيران-سورية-حزب الله).
-محاولة جذب سورية إلى محور الاعتدال من خلال تحقيق السلام معها تحت الضغط المباشر، ودفع سورية إلى تقليص طموحاتها السياسية وقبولها بالسقف الإسرائيلي، وبالتالي تقييدها ضمن حدودها بشكل يعزلها عن التأثير الإقليمي.
-تعميق الانقسام السنّي- الشّيعي في المنطقة مما يضع إيران وحلفاءها في خطر المواجهة مع المحيط السني العملاق وعلى رأسه تركيا.
-شعور القيادة في اسرائيل بالارتياح لأن المجتمع الدولي أصبح أقل اهتماماً بالقضية الفلسطينية في ظل هذه الظروف المعقّدة والأحداث المتسارعة.
أما التداعيات المحتملة للأزمة السورية على إسرائيل، فإنها تُنبئ بمخاطر استراتيجية لا أحد يعلم مدى قدرة إسرائيل على تجنب آثارها؛ تتمثل هذه التداعيات بالنقاط الآتية:
-تزايد العزلة الإسرائيلية في ظل تراجع الدور الأمريكي في المنطقة وخسارتها العلاقة مع بلدين يحملان ثقلاً نوعيّاً على المستوى الاقليمي وهما تركيا ومصر، وما يقابله من تعاظم في الدور الإيراني.
-وَضَعَ سقوطُ بعض الأنظمة الصديقة إسرائيلَ أمام تحديات أمنية تفرض عليها إعادة صياغة عقيدتها الأمنية وزيادة النفقات وإحداث تغييرات جوهرية في بنية الجيش، الأمر الذي قد يضطرها للّجوء الى سياسة التقشف.
-تعاظم التّهديد النووي الإيراني وتزايد الدعم اللوجستي لحزب الله على الحدود الشمالية.
-الفوضى وما يرافقها من احتمال تشكّل طوق خطير من قوى خلقتها الأزمة السورية؛ وقد تكون هذه القوى غير صديقة لإسرائيل بتاتاً، بل تناصبها العَداء وتنظر لها كمُحتلّ تاريخي يجب مقاومته.
-تخوّف اسرائيل من احتمال وصول حركات الإسلام السياسي إلى السلطة في سورية مما يؤدي إلى انتعاش الحركات الأصولية والجهاديّة ويجعل من سورية نقطة جذب للتّنظيمات السلفيّة والجماعات المسلّحة المتطرّفة وما يمكن أن يحمله هذا السيناريو من تهديد أمني كبير.
-احتمال نقل الصراع من الداخل السوري إلى الداخل الإسرائيلي كنوع من تخفيف الضغط وخلط الأوراق.
استناداً الى ماسبق، يتّضح أنّ الموقف الإسرائيلي تجاه الأزمة السورية تحكمه عوامل عديدة وأنّه موقف مركّب ومعقّد ينطلق من حسابات إسرائيلية محضة، لاعلاقة لها بأيّ مواقف أخلاقية او إنسانية؛ فتغذية الصراعات الداخلية هو الهمّ الأكبر لإسرائيل، فهذا يمكّنها من اللّعب على التناقضات وفقاً لمصالحها الظرفية و الاستراتيجية.
= = = = =
*الأستاذ علي سليمان – كاتب سياسي.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي اس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً