بقلم الأستاذ ثروت زيد الكيلاني*
تمثل الأرض القيمة الأساسيَّة في مقاومة الاحتلال الصهيوني لفلسطين، ما يستوجب ضرورة الإنصاتِ للغة الأرض؛ عن كرمها اللامحدود، وما تحمله من معانٍ وإشارات ملهمة وعميقة، ومناشداتها رفع الظلم الواقع بحقها، بل تدميرها واستنزافها من السلطة القائمة بالاحتلال والعبث في توازنها الحيوي، الذي وصل أوجه من جرائم الإبادة والتطهير العرقي في العدوان على غزة والضفة الغربية بما فيها القدس، مستخدماً الخرافة التوراتية (أرض الميعاد) والديموقراطية المزعومة، والتي وجدت لها آذاناً صاغية في أمريكا والغرب. علماً أن الديمقراطية الحقيقية تتجاوز إجراء انتخابات لتشمل احترام حقوق الإنسان، والحريات الأساسية وعدم التمييز والمساواة وغيرها، خاصة إذا كانت الانتخابات مجرد سباق محموم بين الأحزاب الصهيونية لتحقيق مصالحها على حساب المواطنين الفلسطينيين الأبرياء، ما يفضح جوهر الحُكم على النظام السياسي الصهيوني وحلفائه، ويكشف زيف وازدواجية ادعاءاتهم باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان وما ينفذ فعلاً.
تشكل مجموعة من الأبعاد المتشابكة للاحتلال في مجملها نموذجًا للاحتلال الشمولي الذي يستهدف القضاء على الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، والاستيلاء على أرضه، وتتمثل في إقامة المستعمرات الاستيطانية وتوسيعها في الأراضي الفلسطينية المحتلة من خلال مصادرة الأرض الفلسطينية، وتهجير المواطنين الفلسطينيين. ولضمان ذلك أصدرت التشريعات التي تخضع الفلسطينيين لقوانين قمعية، بينما يتمتع المستوطنون بحقوق مميزة، سواء في التنقل والإقامة والعمل والخدمات الأساسية وغيرها. وممارسة أشكال القمع والانتهاكات من الاعتقالات التعسفية والاعتداءات على المدنيين وهدم منازلهم وتدمير ممتلكاتهم، واستخدام القوة المفرطة ضدهم. إضافة للحصار والقيود الاقتصادية كما في قطاع غزة، وسياسة التغريب والتهجير وتفكيك الحياة الفلسطينية والأسرلة وخاصة في القدس، ومحاولات طمس الهوية الفلسطينية والتاريخ الوطني، وتزوير الحقائق التاريخية وتشويه الذاكرة الفلسطينية، وفرض الخرافة الصهيونية كبديل عن التاريخ الفلسطيني.
يتمثل التحدي الأخلاقي والعملي للمقاومة الوطنية في تحقيق التناغم والانسجام بين الأقوال والأفعال، حيث يُشكِلان وحدة متكاملة تُعزِز الثقة والمصداقية، فالأفعال هي التجسيد العملي للنوايا والمواقف، وتبين جدية الأقوال، ويمكن استثمار الفجوات بين الوعود والفعل المُنفّذ بطرق إبداعية من خلال تسليط الضوء عليها وإثارة التساؤلات والنقاش البنّاء حول الأسباب والدوافع وراءها؛ ما قد يؤدي إلى حلول إبداعية مبتكرة لمعالجة هذا التناقض بشفافية وصراحة؛ الأمر الذي يُنمّي التفكير النقدي والتحليلي، والبحث عن طرق أكثر اتساقاً بين الخطاب والممارسة، ويُسهم في ابتكار استراتيجيات وتكتيكات جديدة للمقاومة الوطنية، تتسم بالواقعية والفعالية، مع ضرورة تعزيز الشراكة بين مختلف الجهات المعنية (المجتمع المدني، الإعلام، الحكومة)، حيث يؤدي إلى تطوير حلول شمولية وإبداعية، أما إهمال تضارب الأقوال والأفعال واللامبالاة فيُعَد ضرباً من النفاق وعدم الجِديّة، وتصبح الحقيقة والثقة أولى الضحايا.
إن استثمار حالة التناقض بين ما يُقال من قبل الاحتلال وما يُمارَس، يُمكّن المقاومة من كشف النفاق والخداع لدى العدو، ونشر المعلومات والإحصائيات التي توضح الفجوات، والتركيز على التناقض في البيانات والخطابات العلنية لإثارة ردود فعل إعلامية عالمية وشعبية على المستويات كافة، والتي تُمارس ضغطاً على الاحتلال وإحراجه، وفي الوقت نفسه تسليط الضوء على قضايا معينة، لتشكيل الرأي العام المؤيد لأجندة المقاومة الوطنية، وبناء التحالفات، وتحفيز القاعدة الشعبية وتعبئتها وإثارة اندفاعها لمزيد من المقاومة والنضال بالوسائل المبتكرة والممكنة والمتاحة، مع مراعاة أن خداع العدو في مقاومة الظلم وحماية الضحايا من جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي يعد عملاً بطولياً.
إن المقاومة الوطنية بأساليبها السلميّة والمسلحة لها أهميةٌ كبرى في التصدّي للظلم والاستبداد، والتحرر من أطول احتلال فاشي عرفه التاريخ، وتحتاج إلى التكامل والتنسيق بينها، ولكلٍّ من هذه الأساليب صور وآليات متنوعة تتفاوت في أبعادها الأخلاقية والسياسية والقانونية، لا شك أن أساليب المقاومة السلميّة تعد في مجملها أساليب إنسانية مرنة في التفاعل مع الأزمات ومقاومة المحتل، وتُعَبِّر عن التضامن وقوة الإرادة في مواجهة الظُّلم والاضطهاد، إضافة إلى دورها في تعزيز المجتمع المدني وبناء قدراته على التَّغيير السلمي، وتُمَثِّل المقاومة المسلحة حقّاً طبيعيّاً للدِّفاع عن النَّفس والوطن في وجه العدوان والاحتلال، وتُمَكِّن الشَّعوب من المطالبة بحُقوقها وحرياتها عند استنفاد الوسائل السلمية، وفي الوقت نفسه تؤكد على إصرار الشَّعب على تحقيق الحرية والاستقلال، وإحداث تحوُّلات سياسية وعسكرية حاسمة.
من أجل تحويل مَجرَى نَهرِ النِّسيَانِ إلَى أرضِ خِصَام المحتل ودحره لِيَسْقِيَ زُهورَ الحَنينِ إلى نسيم البحر، فلا بد من التغلب على الرغبات والنزعات الذاتية والانتصار على الذات، والتأكيد على أهمية التوافق على خطة مقاومة وطنية شاملة ومتكاملة ضد الاحتلال، وهذا يتطلب تضافر الجهود على المستويات كافة السياسية والاجتماعية والعسكرية لتحقيق الغايات المشتركة، من خلال مراجعة الأهداف والاستراتيجيات بمنظور شمولي والتأكد من أن الأساليب الأخلاقية والعملية متوافقة معها وتدعمها.
وبهذا الصدد فإن أي فعل مقاوم لا بد أن يجمع بين أساليب المقاومة كلها، وعدم الاقتصار على وسيلة واحدة، وتفعيل جميع الأطر الوطنية المرجعية في المقاومة والنضال دون إقصاء لأحد، وتعزيز الوحدة الوطنية على قاعدة وحدة الهدف، وتحسين التواصل والتنسيق بين الشركاء، وعدم السماح بالنزاعات الجانبية، حتى لا نفشل وتذهب ريحنا، واستخدام تكتيكات عملية عقلانية وحكيمة وأكثر فعالية، والتأكيد على الثوابت الفلسطينية باعتبارها قضايا مركزية تجمع الأمة، على غاية دحر الاحتلال وإنجاز الاستقلال كأول الأوليات للنضال الفلسطيني والتحرر الوطني، فالأكثرُ قدرةً على تحكيم قدراته العقلية، وإدراكه لنقاط التحول الحرجة في مسار الحرب ونتائجها هو الأقرب لتحقيق الغايات المنشودة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الأستاذ ثروت زيد الكيلاني – باحث وكاتب، مستشار للشؤون التعليمية والمناهج ووكيل سابق في وزارة التربية الفلسطينية
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً