بقلم الدكتور المهندس آصف ملحم*
كتب زئيف جابوتنيسكي، الأب الروحي للصهيونية، منذ عام 1903، بأنّ مقولة :(مالم يحدث سابقاً، لا يمكن أن يحدث في المستقبل هي مقولة غير علميّة)، وهو مُحِقٌّ في ذلك؛ فلقد بدأ الزّحف الصهيوني نحو فلسطين بوعود وهجرات يهودية محدودة وانتهى باغتصاب فلسطين كلياً وإنشاء دولة إسرائيل، التي تحوّلت إلى أهم مصادر عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط.
يعلم كل من يعمل في المجال الإعلامي أنه يتم بث العديد من الأخبار أو كتابة العديد من المقالات، التي تبدو وكأنها خارج سياق الأحداث، بهدف جس نبض الخصوم أو سبر الرأي العام حول هذه القضية أو تلك، وأحياناً، بهدف التهيئة النفسية للشارع للقبول بسياسات معينة. ولكن عندما ترد مثل هكذا أخبار كتصريحات على ألسنةِ المسؤولين السياسيين فهذا يعني أنّ هنالك خططاً مُعيّنة يتمّ رسمها، أو على أقل تقدير جرى الحديث عنها، وبالتالي هي في طور التصميم والتحضير.
من سوء حظّ القيادة الأوكرانية أنّ حلفاءها قد يتخاصمون عليها كما اتّفقوا معها في العداء لروسيا؛ وهذا في الحقيقة يعكس ضعفاً أوكرانياً في قراءة التاريخ والواقع؛ فلجميع جيران أوكرانيا- وتحديداً بولونيا و سلوفاكيا و هنغاريا و رومانيا- مصالح مباشرة في أوكرانيا. سيحاول هؤلاء- في الزمن الضائع – الحصول على قطعة ما من الكعكة الأوكرانيّة بعد انهيار الدولة هناك.
في الحقيقة، منذ الصيف الماضي تدور في كواليس السياسة أحاديث كثيرة حول حقوق تاريخية للدول المذكورة أعلاه في غرب أوكرانيا؛ فبعض المقاطعات الأوكرانية الغربية كانت جزءاً من تلك الدول في يومٍ من الأيام. تؤكد بعض المصادر أن هناك مشاوراتٍ جرت حول هذه المسألة على مستوى وزارات خارجية تلك الدول؛ ولا يستبعد المراقبون أن يكون مسؤولو تلك الدول قد اتّفقوا فيما بينهم على سيناريو معين، شبيه بسيناريو تقسيم يوغسلافيا، أو الخطة باء، وهم ينتظرون الضوء الأخضر من واشنطن للبدء بتنفيذها.
تبدو بولونيا الأكثر حماساً لتنفيذ هذه الخطة، كما أنها الأكثر حماساً لمساعدة أوكرانيا، وقد يعتقد البعض أن هذا تناقض؛ ولكن يكفي أن نذكّر القارئ الكريم بأن الغاية من الدعم الغربي لأوكرانيا هو استنزاف روسيا فحسب؛ أي أن هذا الدعم (بُغضٌ لروسيا وليس حباً بأوكرانيا).
في بولونيا، يُستعمل عادةً مصطلح (الكريسي الشرقي) أو باللغة البولونية Kresy Wschodnie للإشارة إلى الأراضي الواقعة خارج بولونيا؛ وتتضمن بعض أجزاء ليتوانيا وغرب أوكرانيا وبيلاروسيا. تعني كلمة كريسي باللغة البولونية الحدود؛ وبالتالي في هذا المصطلح إشارة إلى الأراضي الواقعة عند أطراف بولونيا. لذلك يتم تسمية البولونيين الذين يعيشون في تلك المناطق بـ (الكريسيين)، وأحياناً بقصد التهكم والإهانة بـ (زابوغوليين).
حتى نفهم طبيعة الصراع في أوروبا الشرقية لا بد من العودة إلى التاريخ قليلاً وإلقاء نظرة على التركيبة الاجتماعية في تلك الدول.
حتى القرن السابع الميلادي كان يعيش على أرض بولونيا الحالية قبائل، ترتبط فيما بينها بالثقافة واللغة، شكّلت هذه القبائل كيانات سياسية مختلفة. وهكذا مرت بولونيا بالمراحل التاريخية التالية:
1-إمارة بولونيا
والتي تشكلت في عام 960 م، وكانت عبارة عن اتحاد من القبائل البولونية الغربية. توسعت هذه الإمارة بشكل كبير، وبلغت أوج اتساعها في عام 1025 م؛ إذ ضمّت أجزاء من أراضي جمهوريات البلطيق حالياً وكذلك بعض الأراضي الأوكرانية والتشيكية والسلوفاكية الحالية. وبسبب الخلافات بين ورثة العرش، ضعفت إمارة بولونيا و تعرضت لهجومات جيرانها، الأمر الذي أدّى إلى تقسيمها إلى أجزاء مختلفة.
2-مملكة بولونيا
تشكلت في عام 1317 م، حيث تمكّن الأمير فلاديسلاف الأول من توحيد جميع أجزاء بولونيا المبعثرة بعد مئتي سنة من التّفكك. توسعت مملكة بولونيا بشكل كبير بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر. كما توطّدت العلاقات بين إمارة ليتوانيا ومملكة بولونيا، الأمر الذي مهّد إلى تشكيل اتحاد بينهما.
3-الكومونويلث البولوني-الليتواني
وتشكل بين عامي 1569-1796. في هذه الفترة خاضت بولونيا حروباً كثيرةً مع الإمبراطورية الروسية، وبالرغم من أن بولونيا خسرت هذه الحروب، إلا أن بولونيا تمكّنت من ضمّ بعض الأراضي نتيجة السلام بينهما. ضم أيضاً الكومونويلث مساحاتٍ واسعةً من أوكرانيا، بيلاروسيا، لاتفيا، إستونيا، ملدافيا وغيرها (انظر الشكل (1)).
4-تقسيم الكومونويلث البولوني-الليتواني
لم يكن الكومونويلث كامل الاستقلال؛ فلقد اعتمد في اقتصاده على روسيا بشكل أساسي، لذلك تمكّن القياصرة الروس من التحكم بملوك بولونيا. استغل جيران الكومونويلث هذا العامل وغيره من العوامل، الأمر الذي أدى إلى تقسيمه إلى ثلاثة أقسام: بروسيا، النمسا، والقسم الثالث انضم إلى روسيا، أدى هذا التقسيم إلى اختفاء بولونيا من خارطة العالم (انظر الشكل (2)).
5-فترة الارتباط بالدول الأخرى
بعد الانتصارات التي حققتها جيوش نابليون، احتلت فرنسا مساحاتٍ واسعةً من الأراضي البولونية. من هذه الأراضي تمّ تشكيل ما يسمى دوقية وارسو العظمى في عام 1807، ولكنها لم تكن مستقلة عن فرنسا.
بعد اندحار قوات نابليون، انعقد مؤتمر فيينا بين عامي 1814-1815 لتسوية أوضاع القارة الأوروبية، التي خلفتها حروب الثورة الفرنسية والحروب النابليونية وتفكك الإمبراطورية الرومانية المقدسة، أسفر هذا المؤتمر عن إعادة رسم الخارطة السياسية للقارة. وبالنتيجة تم تقاسم دوقية وارسو بين روسيا وبروسيا.
6-الجمهوريات البولونية
يعتبر ظهور بولونيا على خارطة العالم من أهم نتائج الحرب العالمية الأولى؛ ففي عام 1918 أعلن مجلس بولونيا استقلال بولونيا، وأصبح يوزف بيوسودسكي أول رئيس لدولة بولونيا. تم اعتماد مبدأ التجانس الإثني والقومي في تعيين حدود بولونيا. وفي 8 ديسمبر 1919 أقر مجلس أنتنتا الأعلى(1) خلال مؤتمر باريس للسلام (إعلان الحدود البولونية الشرقية المؤقتة)، تم ترسيم تلك الحدود بحيث تكون جميع التجمعات السكنية الناطقة بالبولونية إلى غربها، أما الناطقة بالليتوانية والبيلاروسية والأوكرانية إلى شرقها. تمّت تسمية ذلك الخط بخط كورزون نسبة إلى وزير الخارجية البريطاني جورج كورزون (انظر الشكل (3)).
تجاهلت بولونيا هذا الإعلان وبدأت تهاجم الجمهوريات السوفيتية المحاذية لها. استطاع الاتحاد السوفيتي وقتها تحرير قسم كبير من الأراضي التي تمكّنت بولونيا من الاستيلاء عليها، وتعرضت القوات البولونية إلى خسارات كبيرة. بهدف انقاذ القوات البولونية، أرسل جورج كورزون مذكرة إلى موسكو بتاريخ 11 تموز 1920، عرض فيها ضرورة إيقاف العمليات العسكرية وبدء مفاوضات السلام بين الطرفين، تنازل الاتحاد السوفيتي وقتها عن بعض الأراضي الواقعة شرق خط كورزون لصالح بولونيا، إلا أن بولونيا استغلت تغيرات الأوضاع على الجبهة وقامت بالاستيلاء على بعض الأجزء الغربية من أوكرانيا وبيلاروسيا، الواقعة شرق خط كورزون.
بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية واحتلال ألمانيا لبولونيا، فقدت بولونيا استقلالها، وتمكّن الجيش الأحمر في عام 1939 من استعادة تلك الأراضي وإعادة ضمّها إلى الاتحاد السوفيتي، حيث تم إلحاقها بأوكرانيا وبيلاروسيا (انظر الشكل (4)).
بعد سقوط الرايخ الثالث، شكّل الاتحاد السوفيتي بتاريخ 21 تموز 1944 في وارسو حكومة مؤقتة، وكانت هذه نقطة البداية في التحاق بولونيا بالمعسكر الاشتراكي، لذلك يعتبر 22 تموز هو يوم تأسيس جمهورية بولونيا الشعبية.
يبيّن هذا العرض الموجز غنى وتنوّع التاريخ البولوني، لذلك نلاحظ أنه على امتداد الحدود البولونية يوجد تداخل إثني و لغوي بين السكان على جانبي الحدود (انظر الأشكال (5 و 6)). ومن هنا نفهم أيضاً الخلفيات التاريخية للأطماع البولونية في أراضي الدول المجاورة، وتحديداً أوكرانيا وبيلاروسيا وليتوانيا وألمانيا.
في الحقيقة، لم يكن اختيار واشنطن لبولونيا وجمهورية التشيك لإقامة درعها الصاروخية عبثاً، فمسؤولو الإدارة الأمريكية هم الأكثر قدرةً على قراءة التاريخ، وبالتالي استثمار الأحداث التاريخية بهدف إعادة إحياء بعض النزعات الإثنية والدينية، وفي النهاية خلق حالات من التوتر بين مختلف المجموعات الدينية والإثنية في هذا البلد أو ذاك.
مع ألمانيا، تسلك بولونيا حيال هذا الموضوع شكلاً من أشكال الابتزاز، فهي مرة تطالب بتعويضات عن الحرب العالمية الثانية، والتي تقدّر بحوالي 1.3 تريليون دولار، ومرة تدّعي بأن لها حقوقاً تاريخية في بعض الأجزاء الشرقية من ألمانيا، خاصةً أنّ الطلبين جاءا متزامنين؛ وكأنها تريد القول: إما هذا أو ذاك!
أما فيما يتعلق بغرب أوكرانيا، فيبدو أن حلم استعادة هذه المقاطعات، التي ضمّها ستالين إلى أوكرانيا بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح أقرب إلى الواقع؛ إذ تحاول الآلة الإعلامية البولونية تكييف الرأي العام مع هذه المسألة مستخدمةً الإعلام والفن أيضاً في ذلك!
فمن الحالات التي تم رصدها بدء القناة الحكومية البولونية الرئيسية TVP بعرض مدينة لفوف الأوكرانية وكـأنها جزء من بولونيا في نشراتها الجوية.
فضلاً عن ذلك، على القناة TVP نفسها وفي منتصف نوفمبر الماضي انتهى عرض الموسم الأول من مسلسل يحمل اسم (إيرينيس) Erinyes نسبة إلى آلهة الانتقام في الميثولوجيا اليونانية. تم بناء أحداث هذا المسلسل على رواية تحمل الاسم نفسه للروائي البولوني ماريك كراييفسكي. تدور أحداث هذه الرواية في مدينة لفوف الأوكرانية بين عامي 1938-1939 وعامي 1944-1946، فلقد كانت لفوف ثاني أكبر مدينة بولونية في فترة ما بين الحربين. يبدأ المسلسل بمقدمة عن مدينة لفوف، تتصدّرها العبارة التالية:
” لفوف – المكان الوحيد والفضاء الأبسط على الأرض، الذي يهدي الدفء والسلام. هنا يوجد كل شيء: البداية والنهاية، الحياة والموت. تجسّد هذه المدينة كل نفس بولونية، مثخنة بجراح الحرب والمعاناة “
بالرغم من أنه تم البدء بتصوير هذا المسلسل منذ عامين إلا أنه تمت إضافة بعض العبارات إليه في السنة الماضية، أي بعد بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل بدأت تبرز نيّة بولونيا ضمّ الجزء الغربي من أوكرانيا على ألسنة بعض المسؤولين البولونيين السابقين، كوزير الخارجية السابق رادوسلاف سيكورسكي على سبيل المثال. وعلى الرغم من أن بولونيا لم تعلن رسمياً مثل هذا الموقف؛ إلا أن هذه التصريحات تعكس بدون أدنى شك الرغبة البولونية في ذلك.
لكي تتمكن بولونيا من تحقيق هذا الحلم هناك سيناريوهان:
1-إجراء استفتاء في تلك المقاطعات، وقد يكون هناك اتفاق بين الرئيس زيلينسكي والرئيس البولوني دوده حول هذه المسألة. يعيد هذا الأمر إلى الأذهان الاتفاق السري الذي تم توقيعه بين وراسو وجمهورية أوكرانيا الشعبية بتاريخ 21 نيسان 1920. في ذلك الاتفاق تبادل الطرفان الاعتراف بالنفوذ على بعض الأراضي الواقعة غرب أوكرانيا.
2-قد توافق الولايات المتحدة على تقسيم أوكرانيا باستخدام الآلية نفسها التي استخدمها مجلس أنتنتا في مؤتمر باريس للسلام قبل قرنٍ من الآن تقريباً، كما أشرنا في الأعلى. وقد تضطر أوكرانيا للموافقة على ذلك لأن ديونها أمام الدول الغربية -وخاصةً واشنطن- أصبحت كبيرة جداً؛ وبالتالي تصبح هذه المقاطعات الأوكرانية تعويضاً لبولونيا عن دفعها لديون كييف.
في الواقع، ستترك هذه المشاريع الخطيرة الكثير من الآثار، التي يصعب التكهّن بتطوراتها اللاحقة، ولكن يكفي أن نشير إلى بعضها:
1-ستؤدي هذه السيناريوهات إلى خيبة أمل عند جميع التيارات الاجتماعية في غرب أوكرانيا، ففي هذه المنطقة يقطن: الروس، الأوكرانيون أتباع إيديولوجيا ستيبان بانديرا النازية والبولونيون، الذين لن يتقبّلوا هؤلاء المواطنين الجدد. كما أن البولونوفوبيا (أو فوبيا بولونيا) في تلك المنطقة مترسّخة بشكل كبير، وهذا قد يؤدي إلى صدامات اجتماعية واسعة النطاق. لذلك ستجد القيادة البولونية نفسها أمام تحديات جسيمة، تنبع من صعوبة الدمج الاجتماعي لتلك المناطق في المجتمع البولوني.
2-يجري الحديث الآن فقط عن الجزء الأوكراني لما اصطلحنا على تسميته في الأعلى (الكريسي الشرقي)، لذلك يبرز السؤال: هل ستتوقف بولونيا عند هذا الحد؟ أم أنها قد تجد الدعم السياسي الأمريكي لمحاولتها ضم الأراضي البيلاروسية والليتوانية؟ وضوحاً سيقود هذا السيناريو إلى زعزعة الاستقرار في أوروبا الشرقية كلها.
3-قيام بولونيا بمثل هذه الخطوات قد يشجع العديد من الدول الأوروبية الأخرى إلى المضي في مثل هذه المسارات الخطيرة، التي ستؤدي في النهاية إلى اشتعال القارة الأوروبية بالحروب الأهلية العبثيّة.
4-أمام مثل هذه التطورات ستجد روسيا نفسها مضطرة للتدخل لحماية أمنها القومي، وفي مثل هذه الحالة قد يخرج الصراع عن السيطرة، ويصعب التنبؤ في مآلاته اللاحقة.
ختاماً، لا نستبعد أن تكون هذه المخططات مرسومة ومخبأة في أدراج وكالة الاستخبارات الأمريكية، لذلك نلاحظ أن الولايات المتحدة تحاول المحافظة على الصراع في أوكرانيا ساخناً، عبر الدعم العسكري المدروس والمقنّن.
و العقوبات الاقتصادية التي تفرضها أوروبا على روسيا ترتد عليها بشكل أساسي، وبالنهاية سينهار الاقتصاد الأوروبي، وكميات كبيرة من الموارد ستذهب لصالح الولايات المتحدة الأمريكية، و سنعود إلى هذه النقطة لمناقشتها بالتفصيل في مقالات لاحقة.
= = = = =
*الدكتور المهندس آصف ملحم – مدير مركز جي اس ام للأبحاث والدراسات
1-أنتنتا: هي كلمة ذات أصل فرنسي entente، وتعني الوفاق أو التفاهم بين الدول. وهو إشارة إلى الكتلة السياسية العسكرية التي ضمت الإمبراطورية الروسية وبريطانيا وفرنسا. يطلق عليها في بعض الأحيان الوفاق الثلاثي triple entente.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً