بقلم الدكتور آصف ملحم*
بسبب تدهور أوضاع الجيش الأوكراني، تحاول الآلة الإعلامية المؤيّدة للرئيس زيلينسكي استخدام طرائق غيبلس الدعائية؛ الهدف من ذلك هو محاولة تشكيل صورة كارثة إنسانية في أعين المجتمع الدولي والرأي العام العالمي. كانت آخر الأحداث ما جرى في مدينة بوتشا الأوكرانية، الواقعة شمال غرب العاصمة كييف، إذ سارعت الدول الغربية إلى اتّهام موسكو بارتكاب مجازرَ ضدّ السكان المدنيين قُبيل انسحابها منها، على الرغم من وجود العديد من الملابسات والتّساؤلات والشّكوك في الفيديوهات والصور التي تمّ بثّها من هذه المدينة! والحقيقة أن هذه الأساليب الدعائية الرخيصة استُخدِمتْ في أماكن أخرى في أوكرانيا وفي العالم.
قبل الخوض في التفاصيل أعتقد أنّه يستحسن العودة إلى أحد الأمثلة التاريخية المفيدة لكي نضع القارئ الكريم في صورة طرائق غيبلس في الدعاية والتّضليل. يعود هذا المثال إلى الحرب العالمية الثانية، وتحديداً إلى شهر تشرين الأول من عام 1944، عندما تمكّن الجيش الأحمر من السيطرة على قرية نيميرسدورف في مقاطعة كالينينغراد بتاريخ 21 تشرين الأول. وبسبب تغيّر الأوضاع على الجبهة، انسحبت القوات السوفيتية من هذه القرية بتاريخ 23 تشرين الأول، ومن جديد دخلتها القوات الألمانية (ڤيرماخت). بعد ذلك، تبيّن وجود عدد كبير من القتلى بين المدنيين في هذه القرية، استخدمت آلة غيبلس الدعائية هذه الحادثة لإخافة السكان المدنيين من القوات السوفيتية. وبالرغم من أنّ عدد الضحايا المُسجّل رسمياً كان (26) شخصاً، إلا أنّ وسائل الإعلام النازية وفي مذكّرات شهود العيان اللاحقة تمّ رفع هذا العدد إلى (62) وأحياناً (73). ولم تجرِ أيّ تحقيقات لتثبيت هوية الضحايا وأسباب وفاتهم. و في عام 1946 تمّت إعادة تسمية قرية نيميرسدورف باسم (مايكوڤسكي)، نسبةً إلى الشاعر الروسي ڤلاديمير مايكوڤسكي، ولا تزال هذه القرية مأهولةً حتى الآن، وبلغ تعداد سكانها 913 نسمة وفق إحصاء عام 2010.
في الواقع، أُجريت العديد من الدراسات والأبحاث الأكاديمية، سواء في التخصصات التاريخية-السياسية أو النفسية-الاجتماعية، حول غيبلس وحياته ومناهجه وأساليبه الإعلامية والدعائية والتضليلية، في مختلف جامعات العالم. فضلاً عن ذلك، أعدت المؤسسات الإعلامية المختلفة آلاف التحقيقيات والمقالات حول هذا الرجل الذي ارتبطت حياته ومصيره ومصير عائلته بتاريخ ومصير ألمانيا النازية، ومات هذا الرجل بموت هذه الإمبراطورية.
فمن هو غيبلس وما هي طرائق غيبلس؟
ولد بول جوزيف (يوزيف) غيبلس Paul Joseph Goebbels بتاريخ 29 تشرين الأول 1897، ومات بتاريخ 1 أيار 1945، و كان من الأشخاص المقربين لهتلر.
في عام 1924 انتسب إلى الحزب النازي، أو حزب العمال الوطني الاشتراكي الألماني
National Socialist German Workers’ Party
(German: Nationalsozialistische Deutsche Arbeiterpartei or NSDAP)
وفي عام 1926 أصبح غاوليتر الحزب في منطقة برلين (غاوليتر – هو منصب حزبي في منطقة محددة، وهي مؤلفة من كلمتين غاو + ليتر. غاو تعني منطقة أو مقاطعة وفي اللغة الألمانية القديمة تعني منطقة وجود قبيلة ما، أما ليتر فتعني قائد أو زعيم).
وفي عام 1930 أصبح مدير البروباغندا في الحزب النازي.
ومنذ عام 1933 حتى 1945 أصبح وزيراً للتربية والبروباغندا، وكذلك رئيس غرفة ثقافة الرايخ الثالث.
أصبح مستشار الرايخ الثالث بقرار من هتلر نفسه بعد الاجتماع الذي انعقد بتاريخ 29 نيسان 1945، إلا أنّه أمضى يوماً واحداً فقط في هذا المنصب قبل أن ينتحر مع زوجته ماجدة Magda، التي سممت أطفالها الستة بسيانيد البوتاسيوم بتاريخ 1 أيار 1945.
في الواقع، كانت إمكانية حصول غيبلس على مرتبة وظيفية متقدمة في الحزب النازي مستبعدةً تماماً بسبب العديد من الصفات التي تمتّع بها. لقد كان غيبلس قصير القامة، ذا شعر داكن وعيون متوقدة ذكاءً، ذا صوت جميل، نحيفَ الجسم، أعرجاً بسبب عملية أجراها في طفولته، غير متناسق الشكل ومعقداً غريب الأطوار. بسبب هذه المواصفات بدا غريباً في ذلك الحزب، الذي تأسس على قاعدة أن جميع منتسبيه من (الألمان الحقيقيين)، وبسبب ذلك نعته رفاقه بالعديد من الصفات غير اللائقة وأطلقوا عليه العديد من الألقاب المُهينة.
لم تكن صفاته وملامحه الجسدية هي العائق الوحيد، بل كانت درجة تعليمه أيضاً، فهو حائز على درجة الدكتوراه في الآداب من جامعة هيدلبيرغ؛ إذ أن كلمة (مثقف أو متعلم) كانت ترادف كلمة (يهودي) في ألمانيا النازية. لقد كان تفوُّقه العقلي على رفاقه في الحزب واضحاً؛ فكانت محاكماته السطحية و أساليبه الباردة في السخرية وخطاباته المطعمة بالفرنسية واللاتينية وحدّة ذكائه مصدر إزعاج وسخط وغيظ المحيطين به.
وبالرغم من أن براعته في توليد الأفكار وبديهته الحاضرة وإرادته الصلبة ومرونته الكبيرة في استخدام الكلمات أثارت إعجاب الكثيرين في الحزب النازي، إلا أنّ هؤلاء أنفسَهم لم يعتبروه يوماً أنه منهم، وكانوا ينظرون إليه على أنه ليس (نازياً خالصاً).
قبل أن يصبح غيبلس عضواً في الحزب النازي جرّب العديد من الوظائف؛ فلقد أعطى الدروس الخاصة وعمل موظفاً في بنك درسدن. تلقّى أولى تجاربه الصحفية والخطابية أثناء عمله سكرتيراً في مكتب فرانس فيغرسخاوس، وهو عضو في مجلس النواب (ريخستاغ، Reichstag) عن حزب يميني متطرف اسمه (الحرية الشعبية)؛ وكان يشارك-أثناء عمله- في اجتماعات الحزب وإصدار الجريدة الخاصة به. وفي أحد الاجتماعات عرض خدماتِه على كارل كوفمان، وهو أحد رجال السياسة ذات التأثير الواسع في أوساط النازيين، وقام الأخير بعرض هذه المبادرة على الأخوين غريغور و أوتو ستراسر، وهما من الدائرة المقربة من هتلر. وهكذا أصبح غيبلس- في الوقت نفسه – سكرتير مكتب كوفمان ونائب رئيس تحرير جريدة الحزب النازي، التي بدأت بالصدور منذ عام 1925. لاحقاً عيّنه ستراسر سكرتيره الخاص، بعدما لاحظ مواهبه الكثيرة.
في عام 1926، حصل انقسام في الحزب النازي بين هتلر (فرع ميونيخ أو الفرع الجنوبي) وفرع الأخوة ستراسر (الفرع الشمالي)، وفي مؤتمر الحزب الذي انعقد بتاريخ 14 شباط 1926 في مدينة بامبيرغ، كانت مجموعة ستراسر في عزلة تامة؛ إذ انتصر هتلر عليهم، في الحقيقة، ليس بالحجج والبراهين، بل عبر التأثيرات العاطفية والانفعالية والحماسية. كان غيبلس حاضراً في ذلك المؤتمر، وكانت حالته مضطربة، وإنها لمن سخرية الأقدار حقاً أن يقع أحد أئمّة الدعاية والبروباغندا في ألمانيا والعالم في شرك دعاية غيره. وبعدما تبيّن أن فريق ستراسر أصبح يشكل الأقلية في الحزب، انضم غيبلس إلى فريق هتلر في نهاية آذار من عام 1926، إذ دُعي وقتها إلى ميونيخ للاشتراك في إحدى تظاهرات الحزب النازي. ويبدو أنّ هتلر وجد فيه مواهب كثيرة وطاقة كبيرة للعمل معه، لذلك عيَّنه زعيماً حزبياً (غاوليتر) على برلين في نهاية تشرين الثاني من عام 1926، ليبدأ بعد ذلك مشواره الطويل في ممارسة البروباغندا والدعاية والتضليل.
أجاد المؤرخ الألماني فريتز سميث، في كتابه (الإعلام في الأغلال) الصادر في برلين عام 1948، عندما شبَّه عمل غيبلس وزملائه بالصنّاع، الذين ينتجون المواد الخام، المواد نصف المُصنَّعة، المنتجات الجاهزة للاستهلاك الروحي (النفسي) للتنويم الشامل للشعب الألماني. فلقد شبّه فريتز الكلمة المطبوعة بالغاز السّام؛ ففي هذا النظام الصناعي الإعلامي كان غيبلس هو المدير العام وهناك كيميائيون ومديرو صناعة.
في الواقع، العديد من الطرق التي طبّقها غيبلس كانت معروفة قبله إلا أنه لم يتمكن أحد من تطبيقها ببراعة كما طبّقها هو، وسنحاول التعريج عليها تباعاً:
1-الفعل الدرامي:
لقد تجلت موهبته في هذا الشأن مباشرةً بعد تعيينه وزيراً للتربية والبروباغندا بتاريخ 13 آذار 1933. حيث قرر الحزب النازي إجراء احتفال بتشكيل مجلس النواب الجديد (الرايخ ستاغ)، الذي شكل فيه الحزب النازي الأغلبية بتاريخ 21 آذار في مدينة بوتسدام، لذلك يسمّون هذا اليوم بـ (يوم بوتسدام). لقد كان اختيار المكان والزمان ذا دلالات كثيرة في الوعي الجمعي الألماني؛ فهذا اليوم هو الذكرى السنوية لافتتاح بسمارك أول رايخ ستاغ، كما أن الحفل جرى في كنيسة حول ضريح فريدريك الثاني أو فريدريك الأكبر ملك بروسيا. وفي لحظة إعطاء الرئيس الألماني بول فون هيندينبرغ Paul von Hindenburg الموافقة لهتلر كمستشار على ألمانيا رفرف العلم الإمبراطوري بألوانه الثلاثة، الأسود والأبيض والأحمر، وفي التوقيت نفسه وضع الجنود أكاليل الأزهار على ضريح فريدريك الثاني، في لحظة درامية تُظهِر تلاقي الحاضر مع الماضي .
2-التشابه التاريخي:
لجأت الآلة الإعلامية الهتلريّة في كثير من الأحيان إلى استحضار الأمثلة التاريخية بهدف تشريع الكثير من الأفعال التي قام بها الجيش النازي أو في الحالات التي كان يتعرض فيها هذا الجيش لخسارة ما على جبهات القتال.
3-الصمت بقصد التسويف أو التضليل:
عندما لا يوجد ما يمكن قوله حول الأحداث الجارية فمن الأفضل الصمت، ففي فترة الصمت هذه قد تتغير الظروف ويصبح من غير الضروري الحديث عن الموضوع أصلاً، كما أنه بعد فترة الصمت هذه تصبح تلك الأخبار الصادمة عديمة الأهمية.
4-استخدام مصطلحات جديدة:
استخدم غيبلس هذه الطريقة بشكل كبير، فكان يلجأ إلى خلق مصطلحات جديدة أو إلى استبدال ماهو دارج. فمثلاً اختلق مصطلح Kritikaster للإشارة إلى أولئك غير الراضين عن نظام الحكم في حين أنهم لا يبدون أي مبادرة، ولقد انتشر هذا المصطلح بشكل واسع جداً. وفي عام 1943 عندما بدأت تتوالى هزائم الجيش النازي على الجبهة الشرقية اخترع مصطلح (الجبهة المرنة).
5-استخدام الموسيقا لتضخيم الأثر الدرامي:
وهذا يعود إلى أن التأثير في الإنسان يزداد بشكل كبير إذا كان الفعل موجّهاً إلى عدة حواس، من هنا نفهم أثر الموسيقا المرافقة للمشاهدة الدرامية.
6-خلق الشعور بالمشاركة والتّعميم:
كل الإيديولوجيا النازية بُنيت على هذه القاعدة، وهي أن يشعر المرء بأنه مختلف عن الآخرين (الذين نحن ضدهم). وهذا في الواقع يقوم على أثر نفسي معروف، وهو تحريض الناس (ضد) أسهل من تحريضهم (مع). ولقد اُستخدِمَتْ هذه التقنيات بشكل كبير أثناء العمليات الحربية. و في كثير من الأحيان لزيادة مفعول هذا النوع من البروباغندا كان يتم اللجوء إلى التّغذية الرّاجعة Feedback.
7-السرد البسيط للأحداث:
غيبلس نفسه قال: أسوأ أعداء البروباغندا هو العقلانية. لذلك يجب أن تكون البروباغندا سهلة الوصول إلى الناس كافةً.
8-قاعدة سقراط:
هذه القاعدة – كما يبدو اسمها- معروفة منذ الأزمنة القديمة. فلقد عرف القدماء أن هذه القاعدة تعمل بشكل جيد ولكن لم يكونوا يعرفون السبب. ثم اكتشف الباحثون في علم النفس سبب ذلك. حيث تتمثل هذه القاعدة بما يلي:
إذا كنت تريد الحصول على جواب بالإيجاب عن سؤال هام ما، فعليك وضعه في المرتبة الثالثة، بحيث يسبقه سؤالان آخران يكون جوابهما نعم.
حقّق علماء النفس في هذه القضية فتبيّن أنّ الإنسان ينزع إلى الاقتصاد في صرف الطاقة، وبالتالي فإذا كان هناك سؤالان جوابهما (نعم) فتزداد الثقة بأن الثالث كذلك، وحالة الوعي عندما نجيب مرتين متتاليتين بـ (نعم) تفترض مسبقاً بأنه لا يوجد تناقض مع المحاور الذي يطرح الأسئلة.
9-خلق الهستيريا:
ففي حالة الهستيريا يسهل التحكم بالجموع. لذلك امتلأت الجرائد في ذلك الزمن بالعناوين المحرِّضة والمثيرة. مثل:
(حرب شاملة … نصر شامل)
(لتعزيز النصر فعلى الأغلب سنطلب أكثر وليس أقل)
(لقد ارتجفت قلوبنا)
ففي هذه الظاهرة يكفي توجيه الأفكار بالاتجاه الصحيح و ليس بالضرورة أن يتجمع الناس في قاعة ما.
10-تقنية (أمسك اللص):
والهدف هو صرف الانتباه إلى قضايا أخرى بالقول: إن الآخرين أيضاً يرتكبون الأخطاء مثلنا بل أكثر منا.
ومن الأمثلة على ذلك: في 13 نيسان 1943 أذاع راديو برلين خبرَ العثور على مقبرة جماعية لآلاف الضحايا المدنيين البولونيين في قرية كاتين في محافظة سمالينسك غرب روسيا، وفيه تم اتّهام البلاشفة السوفييت بارتكاب هذه الجريمة.
11-التّأثير في الكبار عن طريق الصغار:
لم تكن أساليب الدعاية النازية موجهة للكبار فقط بل للصغار أيضاً. فالكثير من الآباء يشاهدون برامج الأطفال مع أولادهم.
12-خلق الأساطير:
لأسطرة الأشخاص والأحداث والظواهر أثر كبير على المجتمع؛ ففي الأسطورة قوة الحياة أكبر مما هي عليه في الواقع نفسه، وخير دليل على ذلك هو أنه للحزب النازي أنصار حتى في عصرنا الحالي.
13-الإيمان بالمعجزات:
يعتبر اللجوء إلى المعارف الباطنية والسرية والظواهر الغامضة وغير القابلة للشرح والتفسير من أساليب الدعاية النازية أيضاً. فلقد لجأ غيبلس نفسه إلى تنبؤات نوستراداموس لربط بعض الأحداث الحالية بتلك التنبؤات بخيط رفيع ومن ثم الترويج له في الإعلام.
هذه باختصار الأساليب والطرق التي كانت معتمدة في ألمانيا النازية من قبل الدكتور غيبلس، بعضها مازال معتمداً حتى اليوم، ولكن في العصر الحالي تطورت وتعقدت هذه التقنيات والطرق والأساليب بسبب تطور وسائل الإعلام، بل أصبح علم النفس الإعلامي وعلم النفس الاجتماعي وعلم نفس الجماعات والحشود أحد الفروع الهامة في علم النفس.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور آصف ملحم – مدير مركز جي إس إم للأبحاث و الدراسات (موسكو).
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً