بقلم الدكتور آصف ملحم*
يبدو أن الموجة الأوروبية المناهضة لدعم أوكرانيا في تصاعد مستمر، فبعد فوز (روبرت فيتسو) في سلوفاكيا، يأتي فوز الحزب اليميني الهولندي (حزب الحرية PVV) بزعامة (غيرت وايلدرز Geert Wilders) في الانتخابات المبكرة التي جرت في 22 نوفمبر الجاري، ليعزز هذه الصورة. وهذا دليل على أنّ الحرب الروسية-الأوكرانية تركت آثاراً سلبية حقيقية على المجتمعات الأوروبية، الأمر الذي أدّى إلى صعود قوى سياسية مؤيّدة للموقف الروسي.
تتمحور المواقف المعلنة لزعيم حزب الحرية حيال الأزمة الأوكرانية حول إيقاف المساعدات العسكرية لها. وايلدرز نفسه زار مجلس الدوما الروسي عام 2018، وقتها أجرى لقاءً مع شبكة روسيا اليوم، سخر في ذلك اللقاء من أطروحة أن بوتين ينوي توسيع حدود روسيا.
في الواقع، أول من طرح فكرة (تحالف المقاتلات) الرئيس الأوكراني نفسه أثناء زيارته إلى ألمانيا في 14 مايو الماضي. و الحقيقة أن تحالف المقاتلات هو اتحاد لمجموعة من الدول المستعدة لتقديم الطائرات القتالية الغربية الحديثة. إذ ادّعت أوكرانيا وقتها بأن أحد أهم أسباب تعثّر الهجوم المضاد هو التفوق الجوي الروسي. و لتحقيق تفوق جوي أوكراني على روسيا فإن أوكرانيا تحتاج إلى 200-300 طائرة حسب تقدير بعض الخبراء العسكريين، في حين يؤكد آخرون أنها تحتاج فقط إلى 100 طائرة، أما كييف فطالبت بتقديم 180 طائرة.
في الاجتماع الذي جمع (ريشي سوناك) مع رئيس الوزراء الهولندي (مارك روته) في إيسلندا على هامش قمة مجلس أوروبا بتاريخ 16 مايو اتّفق الطرفان على تشكيل (تحالف دولي) لتقديم طائرات إف-16 لأوكرانيا، كما أنهما اتّفقا على تقديم الدعم اللازم لتدريب الطيارين الأوكران على قيادة هذا النوع من الطائرات.
في الحقيقة، قوبلت فكرة (تحالف المقاتلات) وإمكانية تقديم طائرات إف-16 لأوكرانيا بالكثير من التحفظ والشك، والجدل حول هذا الموضوع لم يتوقف حتى لحظة كتابة هذا المقال. وبالرغم من المسار الصعب الذي مرت به هذه الأطروحة، لم ييأس الجانب الأوكراني من حشد الدعم اللازم لهذه الفكرة طوال الأشهر الماضية؛ والرئيس الأوكراني نفسه لم يدّخر جهداً في إقناع القادة الغربيين بجدوى هذا التحالف في تحقيق النصر على روسيا في كل المناسبات التي جمعته بهم، على الرغم من سيل الانتقادات الموجهة للقيادة الأوكرانية في الإعلام الغربي بسبب الأداء السيء للجيش الأوكراني على الجبهة.
روسيا بدروها، على لسان العديد من المسؤولين، توعّدت بأن الغرب سيواجه أخطاراً جسيمة إذا أقدم على تنفيذ هذه الفكرة. الرئيس بوتين نفسه قال: “سنحرق طائرات إف-16 كما حرقنا دبابات ليوبارد”. في حين اعتبر بعض المسؤولين الروس أنّ تقديم هذه الطائرات يشكل تهديداً خطيراً لروسيا!
لن نقوم بعرض كل التصريحات والتحليلات المتعلقة بهذا الموضوع؛ فهي كثيرة جداً، وبعض القنوات خصصت لها برامجَ مستقلة. لذلك سنعرج سريعاً على أهم المحطات الهامة في هذه القضية:
مع اقتراب نهاية مايو، ضمّ تحالف المقاتلات في البداية الولايات المتحدة وخمس دول أوروبية، من الدول الراغبة باستبدال أسطولها من طائرات إف-16 بطائرات الجيل الخامس إف-35 الأحدث. كما أنّ تدريب الطيارين الأوكرانيين بدأ في تلك الفترة أيضاً.
بالرغم من أن عدة دول أعلنت استعدادها لتقديم هذه الطائرات إلى أوكرانيا، إلا أنهم جميعهم انتظروا الضوء الأخضر من الولايات المتحدة الأمريكية، فهذه الطائرات تُصنع هناك؛ ولا يمكن تقديمها لبلد ثالث دون موافقة واشنطن. كانت هولندا في مقدمة الدول التي ضغطت لأشهر على الولايات المتحدة لتمكينها من تقديم هذه الطائرات لأوكرانيا. كما أن هولندا والدنمارك بدعم من بريطانيا وبلجيكا ترأّستا تحالفَ تدريب الطيارين الأوكرانيين.
لقد كانت قمة الناتو، التي انعقدت في العاصمة الليتوانية فيلينيوس بين 11-12 يوليو الماضي، نقطة التحول الأبرز في هذا الملف. وقّع وقتها وزير الدفاع الأوكراني (ألكسي ريزنيكوف) إحدى عشرة مذكرة تفاهم لتشكيل تحالف لتدريب الطيارين الأوكرانيين. تضمّنت القائمة: (الدنمارك، هولندا، بلجيكا، كندا، لوكسمبرغ، النرويج، بولندا، البرتغال، رومانيا، السويد، بريطانيا). كما وافقت هذه الدول على تقديم تدريب فني للجانب الأوكراني.
ولكن يبدو أن الموافقة الأمريكية على تقديم هذه الطائرات كانت بحاجة لمناقشات داخلية في المؤسسات المعنية، لذلك لم تبدأ خيوط الضوء الأخضر الأمريكي بالبروز حتى 18 آب الماضي. وقتها قال وزير الخارجية الدنماركي (لارس لوكه راسموسن) في مقابلة على القناة الدانماركية TV2: “إنهم تلمسوا جواباً إيجابياً”، أو وفق تعبيره جواباً صديقاً، من الجانب الأمريكي.
خلال زيارة الرئيس الأوكراني إلى الدنمارك بتاريخ 20 آب الماضي، أعلنت رئيسة الوزراء الدنماركية، (مته فريدريكسن) تزويد أوكرانيا بـ 19 مقاتلة من هذا النوع من أسطولها المكون من 30 طائرة، وهذه الطائرات ستصل أوكرانيا على دفعات؛ 6 قبل نهاية العام الحالي و8 في عام 2024 و5 في عام 2025. أما رئيس الوزراء الهولندي (مارك روته) فقد أعلن، أثناء زيارة زيلينسكي إلى أمستردام بتاريخ 21 آب، عن استعداده لتقديم 42 مقاتلة إف-16 إلى أوكرانيا. وقتها وجّهت بعض القوى السياسية الهولندية انتقاداتٍ واضحةً لرئيس الوزراء على إطلاق هذا الوعد دون العودة إلى البرلمان، كما أن الحكومة كانت مستقيلة في تلك الأثناء.
وفق تقديرات الخبراء العسكريين سيكون الربيع المقبل طوراً هاماً في الحرب الروسية- الأوكرانية، فكلا الطرفين سيستثمر الشتاء لتعزيز قدراته العسكرية، كما أن أوكرانيا ستكون قد تزودت بطائرات إف-16 وصواريخ ATACAMS.
في تصريح ملفت لوزير الدفاع الأمريكي، في 11 أكتوبر 2023، قال (لويد أوستين): “إن واشنطن تتزعّم تحالفاً من الدول المستعدة لمساعدة أوكرانيا في تطوير قواها الجوية”. وأضاف: “إن استخدام طائرات إف-16 لن يبدأ حتى الربيع المقبل”.
تكمن المفارقة الأولى في الموضوع في أنّ قائد الجيش الأوكراني نفسه، الجنرال (فاليري زالوجني) كان قد حذّر من مغبّة القيام بالهجوم الأوكراني المضاد هذه السنة دون تسلم طائرات إف-16 وصواريخ بعيدة المدى. ولقد حصلت خلافات مشهورة بينه و بين الرئيس زيلينسكي حول هذه النقطة. هذه الخلافات بين الرجلين حصلت أيضاً حول العديد من القضايا الأخرى في الميدان، بدأت بمحاولة زيلينسكي إقناع الجيش بجدوى اقتحام خيرسون قبيل انسحاب القوات الروسية منها السنة الماضية، ثم امتدّت إلى معركة باخموت، التي تكبّد فيها الجيش الأوكراني خسائر كبيرة في القوات.
المفارقة الثانية (الجنرال زالوجني) في مقابلته الشهيرة مع صحيفة الإيكونوميست في الثاني من نوفمبر الجاري قال: “في لحظة وصول طائرات إف-16 إلى أوكرانيا فإنها ستكون عديمة الفائدة، لأن روسيا ستكون قد قوّت دفاعاتها الجوية بصواريخ إس-400 المحدّثة، وهذه الصواريخ قادرة على الوصول إلى ما وراء نهر دنيبر”. ، مدير مكتب زيلينسكي (أندريه يرماك) صرّح بدوره في اليوم ذاته أنّ مدى صواريخ إس-400 الروسية المحدّثة يصل إلى 400-600 كيلومتر.
أثارت تصريحات الجنرال زالوجني غضب الرئيس زيلينسكي، الذي سارع إلى إبداء عدم موافقته على ما قاله قائد الجيش، مؤكّداً أن المشكلة الحقيقية للجيش الأوكراني تكمن في التفوق الجوي الروسي.
في الواقع، لم يقتصر الموضوع على الجنرال زالوجني، بل إن العديد من المسؤولين و المراقبين وصلوا إلى هذه النتيجة، سنسرد بعض هذه الآراء للاستئناس:
1-المحلل العسكري في صحيفة Bild الألمانية (يوليان ريبكه) كتب في 16 أكتوبر: “لم تحقق أوكرانيا أي أهداف محسوسة على الجبهة، فالوضع بقي كما كان عليه في الأول من يونيو. تقديم عشرات الصواريخ من نوع ATACMS و بعض طائرات إف-16 في عام 2024 لن يغير الموقف كثيراً”.
2-(أندريه بيليتسكي) قائد فوج الاقتحام الثالث، والقائد السابق لفوج آزوف، شكّك في حديثه لإحدى وسائل الإعلام بتاريخ 21 أكتوبر بأن 100 طائرة من نوع إف-16 ستكون قادرة على تحقيق التفوق على القوات الروسية.
3-وزير الدفاع الإستوني (خانّو بيفكور) في تصريح لصحيفة RBC الأوكرانية بتاريخ 18 نوفمبر أكّد أن طائرات إف-16 لن تغير مسار المعركة.
علاوةً على ذلك، هنالك حالة من التخبّط بين الدول الغربية حيال تقديم هذه الطائرات؛ فبلجيكا لا يمكنها تقديم هذا النوع من الطائرات قبل حلول عام 2025. والسويد أكّدت أنها غير مستعدة لتقديم هذه الطائرة لأوكرانيا قبل انضمام الأخيرة إلى حلف الناتو. أما (جوزيب بوريل) مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، فقد أكّد في 14 نوفمبر الجاري أنه لا يوجد أي خطوات عملية في هذا الملف، وأن هذه الطائرة معقدة وتحتاج إلى الكثير من التدريب.
فضلاً عن ذلك، لا يبدو الجانب الأمريكي شديد الحماس لهذه الخطوة. فلقد أكّد (بت ريدر) المتحدث باسم البنتاغون، في 31 أكتوبر الماضي، أن عملية تدريب الطيارين قد تستمر ما بين 5-9 أشهر، فالأمر يتعلق بدرجة التقدم في التدريب.
البنتاغون، في 16 نوفمبر الجاري، أكّد أن عمليات التدريب على الطائرات إف-16 بدأت في أوروبا و الولايات المتحدة، سواء على قيادة الطائرات أو على الخدمات الفنية المرافقة. لكن لا بد من العمل على تأمين قطع التبديل اللازمة؛ فالطائرة لن تتمكن من العمل بدون قطع التبديل هذه إذا تم إعطابها. و وفق تقديرات البنتاغون يجب أن تكون قطع التبديل اللازمة وافرة في أوكرانيا لفترة زمنية لا تقل عن 90 يوماً!
وزير الدفاع الأمريكي أثناء زيارته الأخيرة إلى كييف في 20 نوفمبر الجاري، قال: “لا يوجد عصا سحريّة في هذا النزاع؛ فالأمر مرتبط بالأسلحة المقدمة لأوكرانيا وبطريقة استخدامها بشكل متكامل مع باقي الأسلحة والعتاد العسكري، وهذا ينسحب على طائرات إف-16 أيضاً”.
هذا السرد الزمني لمواقف المعنيين بالموضوع يؤكّد أن تقديم طائرات إف-16 لن يعزز من نجاحات الجيش الأوكراني على الإطلاق، هذا إذا نظرنا إلى الجانب الفني والعملياتي فقط، دون الأخذ بعين الاعتبار التحولات السياسية التي تشهدها القارة الأوروبية.
كما أن الصورة التي ارتسمت في أذهان القادة الغربيين بعيد الانسحاب من خيرسون تختلف جذرياً عن الصورة التي ارتسمت في أذهانهم عقب الفشل الذريع الذي مُنِيَ به الجيش الأوكراني على الجبهات في الصيف المنصرم. هذا إضافةً للانعكاسات السلبية الكثيرة التي خلّفتها الحرب الروسية-الأوكرانية على الاقتصادات الأوروبية.
لذلك فإننا نعتقد أن فوز حزب الحرية الهولندي في الانتخابات البرلمانية سيعزز الجبهة المناهضة للدعم الغربي لأوكرانيا، و أن الانقسام الغربي حول تقديم مقاتلات إف-16 سيزداد حدةً في الأشهر المقبلة، خاصةً أن هولندا كانت في مقدمة الدول التي دعت إلى تقديم هذه الطائرات ودافعت بشدة عن هذا الموقف.
المفارقة الغريبة هي أن الإلحاح الأوكراني على طلب هذه المقاتلات في تصاعد مستمر بموازاة تراجع في الدعم الغربي لأوكرانيا على المستويين الشعبي و الرسمي. لذلك فالسؤال الذي يطرح نفسه:
هل ستشهد السنة القادمة مواقف سياسية أوروبية أكثر صرامة تجاه أوكرانيا، تدفع الأخيرة للتفاوض مع روسيا، أم أن الولايات المتحدة ستتمكن من إقناع الأوروبيين و بالتالي دفع الصراع إلى مزيد من التصعيد؟
سنترك الإجابة على هذا السؤال للمستقبل و لمداخلات القرّاء الكرام!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور آصف ملحم – مدير مركز جي إس إم للأبحاث و الدراسات (موسكو).
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً