بقلم الدكتور المهندس آصف ملحم
تخلق الحروب -علاوة على الدمار والمآسي- منظومات فساد، تستغل الفوضى في البلاد بهدف جني المال بطرق شتى. يتشارك في صناعة هذه المنظومات مجموعة كبيرة من الشخصيات، بعضها يتبوَّأ مناصبَ رسميةً، وكل منهم يعرف دوره جيداً ويقوم به على أكمل وجه، والضحية الكبرى هم المواطنون البسطاء، الذين يتحولون في نظر هؤلاء الفاسدين إلى مجرد كتل من اللحم لا أكثر.
يبدو أن شبكات الفساد التي تشكّلت على خلفية الحرب الروسية-الأوكرانية لا تقتصر على بعض الشخصيات الأوكرانية، بل يشاركهم العديد من المسؤولين الغربيين فيها، فحجم الأموال التي يتم تقديمها إلى أوكرانيا كبير جداً.
سأركّز في هذا التحقيق على موضوع واحد فقط، وهو كيفية استغلال منظومات الفساد مسألة التدفئة في أوكرانيا لسرقة المساعدات التي تقدمها الدول والمنظمات والمؤسسات الدولية.
أعتقد أن القارئ الكريم قد لاحظ في الأشهر السابقة تصاعد الحديث في المؤسسات الإعلامية الغربية عن اقتراب فصل الشتاء وأنّ المواطن الأوكراني سيعيش ظروفاً قاسية بسبب نقص الغاز هناك. في الوقت نفسه، يوجد العديد من الأنابيب التي تنقل الغاز الروسي عبر أوكرانيا إلى أوروبا الوسطى، وشبكة الأنابيب هذه ما زالت تعمل حتى يومنا هذا، بالرغم من ظروف الحرب في أوكرانيا. لذلك يبرز السؤال:
هل حقيقةً يوجد نقص في الغاز لدى أوكرانيا؟
في الصيف الماضي حاول رئيس الوزراء الأوكراني دينيس شميكال، و (يوري فيترينكو) رئيس شركة النفط والغاز الوطنية (نافطوغاز أوكرايينا) الترويجَ لموضوع وجود نقص في كميات الغاز الضرورية لتغطية حاجات أوكرانيا في الشتاء. ولهذا الغرض تقدّم إلى وزارة الطاقة الأوكرانية بمجموعة من الوثائق التي تتضمّن بيانات غير صحيحة بأنه سيكون هنالك نقص في كميات الغاز بمقدار 3.9 مليار متر مكعب، وبالتالي لتغطية هذا النقص لا بد من استيراد هذه الكمية من الخارج، وثمن هذه الكمية حوالي 6 مليار دولار.
وفقاً لقرار مجلس الوزراء الأوكراني رقم 1194 الصادر بتاريخ 3 ديسمبر 2020، فإن الحصول على تعويضات يتم فقط في حال وجود نقص في الموارد الذاتية ووجود حاجة إلى استيراد هذه الكميات من الخارج. استغل شميكال هذا القرار وتقدم في بداية حزيران من عام 2022 بجملة من مشاريع القوانين، تحمل الأرقام 7427 و7428 و7429(1)، إلى مجلس الرادا بهدف الحصول على مبلغ 6 مليار دولار من الميزانية الحكومية الأوكرانية.
في المطالعة التي قدمها عضو مجلس الرادا ونائب رئيس اللجنة البرلمانية لقضايا الطاقة والشؤون العمرانية، السيد ألكسي كوتشيرينكو(2)، بتاريخ 18 تموز 2022، بيّن أن الأرقام التي قدمتها شركة النفط والغاز الوطنية (نافطوغاز أوكرايينا) غير حقيقية، بل على العكس تماماً يوجد فائض من الغاز بحوالي 2.5 مليار متر مكعب. وليس هذا فحسب، بل إن تقليص الانتاج بحدود 7% لن يؤدي إلى عجز في كميات الغاز بل سيبقى هناك فائض عن حاجة أوكرانيا.
بناءً على ذلك، فإن مشاريع القوانين 7427 و7428 و7429 ستسمح لشركة (نافطوغاز أوكرايينا) بتحويل مبلغ 6 مليار دولار من الميزانية الحكومية إلى حساب الشركة لتغطية سعر الغاز المستورد، مع العلم أن النقص المفترض في الغاز سيتم تغطيته من إنتاج الشركة نفسها، أي أنه ستتم مساواة الغاز المنتج محلياً بالغاز المستورد من حيث السعر، ولا يمكن بشكل من الأشكال إلزام شركة (نافطوغاز أوكرايينا) على الاستيراد، لأن العقود المبرمة معها تلزمها فقط بتقديم الكمية المطلوبة من الغاز بغض النظر عن مصدره!
يصل الإنتاج السنوي لشركة (أوكر غاز فيدابوفانايا)، وهي إحدى الشركات البنات لشركة (نافطوغاز أوكرايينا)، ما بين 16 إلى 19 مليار متر مكعب، لذلك فمن المرجح أن تقدم الأخيرة 4 مليار متر مكعب من إنتاج شركتها البنت، ولكن في الأوراق الرسمية يتم الادّعاء بأنه تم استيراد هذه الكمية من الخارج وفق الأسعار العالمية للغاز.
وهكذا سيذهب الفارق في السعر إلى جيوب كبار المسؤولين الأوكرانيين في الشركات آنفة الذكر والمسؤولين في مجلس الرادا ومجلس الوزراء، هذا إضافة إلى مسؤولي الدول الغربية، الذين يحاولون تسهيل عملية المنح والإقراض لأوكرانيا، وكذلك الشركات الغربية التي تبرم عقوداً وهميّة مع الشركات الأوكرانية.
علاوة على ما سبق، ولبيان وجود فائض من الغاز في أوكرانيا، في 20 سبتمبر الماضي أصدر مجلس الرادا الأوكراني قرارين، أرقامهما: 7732 و7732-1، يسمحان ببيع الغاز الأوكراني إلى بعض الزبائن الآسيويين بسعر أقل من سعر السوق بحوالي 50-80%، وتحديداً بـ 1010 دولار لكل 1000 متر مكعب، مع العلم أن أوكرانيا تمر بظروف اقتصادية صعبة للغاية. لم يحظَ هذان القراران بتغطية إعلامية واسعة في أوكرانيا، لأن من وافق على إصدارهما يعلم ردّة فعل الناس جيداً حيال الموضوع.
لذلك فإن الصورة التي حاول الإعلام الأوكراني الرسمي والإعلام الغربي المعادي لروسيا رسمها في أذهان الناس عن البرد القارس الذي سيجتاح أوكرانيا في الشتاء، ودموع التماسيح التي ذرفها المسؤولون الغربيون على أطفال أوكرانيا، ما هي سوى أسطورة أريد بها التغطية على شبكات الفساد التي استفحلت في أوكرانيا.
هناك العديد من التقارير الصحفية التي تؤكد أن هذه الشبكات تشمل كل شيء في أوكرانيا، بما في ذلك المساعدات العسكرية والإنسانية والشحنات الغذائية وأعمال صيانة المعدات العسكرية … الخ. لذلك فإن انكشاف هذه المعلومات للرأي العام سيؤدي إلى تدهور سمعة القيادات الغربية أمام الشارع الغربي نفسه.
في الواقع، ما قدّمناه هنا مجرّد تحقيق أولي، بنيناه على المعلومات والبيانات المتوفرة بين أيدينا حول هذه المسألة، وهذا في الواقع كافٍ للبرهان على وجود مثل هذه الشبكات، إلا أن معرفة كل التفاصيل المرتبطة بهذه الشبكة يتطلب المزيد من المعلومات عن العقود المبرمة وحركة الحسابات المصرفية بين الشركات الغربية والشركات الأوكرانية وكذلك المساهمين الغربيين في تسهيل القروض والمساعدات الأوكرانية. لذلك قد نعود في المستقبل إلى هذا الموضوع لمناقشته بتفصيل أكبر، وسأكون في غاية السعادة بمشاركتي هذا العمل، الذي سيساهم في إماطة اللثام عن حقيقة ما يحدث في أوكرانيا، ويبدد الوهم عند من يعتقد أن الدول الغربية تقدم مساعدات إنسانية لها.
= = = = =
هوامش
1-تم إقرار القانون 7427 بتاريخ 29 آب 2022، والقانون 7428 بتاريخ 19 آب 2022، والقانون 7429 بتاريخ 19 آب 2022. وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أن وزارة المالية الأوكرانية في خلاصتها حول مشروع القانون 7429، قبل عرضه للمناقشة في مجلس الرادا، أشارت إلى ضرورة إثبات حاجة شركة (نافطوغاز أوكرايينا) لهذه التعويضات عن طريق جهاز الرقابة والتفتيش الحكومي، إلا أنه لم يلتفت أحد إلى ذلك!
2-الوثائق المرتبطة بهذا التحقيق.
انظر أيضاً الموقع الرسمي لمجلس الرادا.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً