بقلم الأستاذ أحمد رفعت يوسف*
الوضع في فلسطين المحتلة والمنطقة اليوم، ليس من جولات المعارك التقليدية، التي كانت تجري مع العدو الصهيوني، والمحكومة بأهدافٍ ونتائجَ محدّدة، وإنما هي نهايات لمرحلة طويلة، من الصراع العربي الصهيوني، وامتداداته الإقليمية والعالمية، وما سبق وتخلل هذا الصراع، من رسم لخرائط وحدود الدول والكيانات والأنظمة، وجولات القتال والحروب التي شهدتها المنطقة، بناء على مقتضيات هذا الصراع.
هي معركة سيتحدد فيها فائزون وخاسرون ونتائج، ستعصف بالخراط والتوازنات الجيوسياسية الموجودة حالياً، وسترتسم خرائط وتوازنات جديدة، للمنطقة والعالم، تتراجع وتتشظّى فيها امبراطوريات، ودول عظمى، وكيانات وأنظمة وتنظيمات، وتصعد أخرى.
ما يعطي هذا العمق، لما يجري في فلسطين المحتلة والمنطقة اليوم، هو أن الصراع العربي الصهيوني، لم يكن يوماً مجرد صراع حدود، بين هذا الكيان وأي دولة أخرى في المنطقة، وإنما هو صراع له أبعاده الإقليمية والعالمية، ارتسمت معالمه وخرائطه الجيوسياسية، بناء على نتائج الحربين العالميتين الأولى والثانية، وشكّل فيه الكيان الصهيوني، رأس حربة للعالم الرأسمالي الغربي، والذي أنتج المرحلة الاستعمارية، وسياسات وأفكار التسلط والهيمنة، على إرادات الدول والشعوب الأخرى، وسرقة ثرواتها، والتي أدت إلى سيطرة هذه المنظومة، على السياسات والاقتصاديات العالمية، واستفردت بها منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، في 26 كانون الأول/ديسمبر 1991، بما يعرف مرحلة القطب الواحد، بقيادته الأمريكية، لكنها اليوم تواجه مشاكل حقيقية، تهدّد بزوال هذه الهيمنة، ولذلك نراها تقاتل بكل شراسة وتوحُّش، للحفاظ عليها.
حاولت القوى الاستعمارية الغربية، بالقوة العسكرية الأمريكية، ودماغها البريطاني، وإدارتها الصهيونية، تحطيم كل القوى، التي يمكن أن تقف في وجه هيمنتها على العالم، والتي تقف في طليعتها اليوم، الصين وروسيا، ودول وتنظيمات محور المقاومة، تارةً بالقوى الناعمة، والثورات الملونة، وتارةً بقوى وأنظمة الفساد، الموالية للغرب، أمثال الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين، أو بالقيادات التي تسمى إصلاحية، والتي تتخذها بوابة للانقضاض، على الدول والمجتمعات العصية، في الوقت المناسب، أمثال الرئيس الصيني السابق “هوجينتاو” وتارة بالحروب والغزو، كما حدث في أفغانستان والعراق، وأخرى بالاغتيالات، كما في حالة رفيق الحريري.
القوى الحية في الدول والتنظيمات، الرافضة لهذه الهيمنة، كانت تدرك خطورة مشاريع ومخططات هذه المنظومة، على دولها ومجتمعاتها، لكنها كانت لاتزال ضعيفة، وفي مرحلة الدفاع السلبي، ومع ذلك فقد تحركت، فكان إخراج يلتسين من السلطة في روسيا، في 31 كانون الأول/ديسمبر 1999، وتسليم زمام الأمور للرئيس بوتين، ثم تحرير الجنوب اللبناني في العام ،2000 بما يعنيه من انكسار للمشروع الصهيوني، أكثر مما هو تحرير للأرض، واستمر الصعود الصامت للصين، والواثق لإيران.
ترافق ذلك مع صعود اليميني الأمريكي المحافظ، وأفكار مُنظّريهْ، في صراع الحضارات لصموئيل هنتنغتون، ونهاية التاريخ لفوكوياما، والتي نَظَّرتْ لسيادة القيم الرأسمالية، وأفكار الليبرالية الجديدة المتوحشة، ولاعتبار القرن الحادي والعشرين، قرناً أمريكياً، وكان قرار اللوبي الصهيوني، والدولة العميقة، في الولايات المتحدة الأمريكية، تسليم زمام الأمور لهذه العصابة، ممثلة بإدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن، التي بدأت عملها، على وقع أحداث الحادي عشر من أيلول، في نيويورك وواشنطن، التي جعلت الولايات المتحدة الأمريكية، وقوتها العسكرية، كالثور الهائج، الذي يريد إخضاع العالم، بالقوة العسكرية والتوحش، فكان غزو أفغانستان 2001، ثم العراق 2003، ثم قتل رفيق الحريري، في شباط/فبراير عام 2005، والعدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006، والذي اعتبرته وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس، مخاضاً صعباً لولادة “الشرق الأوسط الجديد” والهدف ضرب قوى المقاومة، وفي قلبها سورية، وإعادة تشكيل المنطقة وتقسيمها، إلى إمارات وكيانات، عرقيّة وطائفية متناحرة، تدور في الفلك الإسرائيلي، وإسقاط إيران، ومحاصرة الصين وروسيا.
شهدت المخططات الغربية ارتكاساتٍ كبيرة، لم تكن تتوقعها، ومنعتها من تحقيق أهدافها، أولها فشل العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006، ثم نجاة سورية من مصيدة الحريري، ثم فشل العدوان الإسرائيلي على غزة، أواخر عام 2009، وصعود وتنامي المقاومة العراقية، وهو ما أبقى تلقائياً، الطريق مفتوحاً، أمام مثلث بكين موسكو طهران، لاستمرار بناء قوته، السياسة والاقتصادية والعسكرية.
بالتأكيد من غير المتوقع أن تستسلم، القوى الاستعمارية الغربية الصهيونية، لهذه الارتكاسات، ولا بدّ من أساليب ومخططات جديدة، لتنفيذ “مشروع الشرق الأوسط الجديد” فكان “الربيع العربي” الذي كان يستهدف تسليم المنطقة، لعصابات الإسلام الصهيوني (الوهابي الإخواني) وتم توكيل الأمر لنظام أردوغان الإخواني، الذي انتعشت عنده، أحلام العثمانية الجديدة.
تساقطت الأنظمة في تونس ومصر وليبيا، لكن الهدف الرئيس، كان جوهرة المنطقة ومفتاحها “سورية” والذي كان يعني إسقاطها، السيطرة على كامل منطقة غرب آسيا، وتحقيق كل الأهداف والمشاريع، الأمريكية الغربية الصهيونية.
توقع تحالف العدوان، أن دمشق ستسقط، في فترة ما بين شهرين وثلاثة أشهر، لكنها بقيت صامدة وعصية على السقوط، وهذا ما شكل ارتكاسة كبرى، لمشروع الشرق الأوسط الجديد، بنسخته الجديدة، وأول انعطافة حادة، في مسار التوازنات الإقليمية والدولية، باتجاه بدء انتهاء مرحلة القطب الأمريكي الواحد، والانتقال إلى العالم متعدد الأقطاب، بقيادة موسكو بكين طهران، وتم تكريس هذا المسار، مع دخول المقاومة اللبنانية، وفصائل المقاومة الأخرى وإيران، إلى جانب الدولة السورية، ثم الدخول الروسي، الذي حقق حلم موسكو، في الوصول إلى المياه الدافئة، وفتح المجال أمام عودتها كقوة عظمى، وفي بكين، تم انتخاب الرئيس شي جين بينغ، في 14 آذار/مارس 2013، خلفاً للرئيس (الإصلاحي) هوجينتاو، الذي تم إخراجه بشكل مهين، من مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني، في 22 تشرين الأول/أكتوبر من عام 2022، بعد التجديد للرئيس شي جي بينغ، لولاية ثالثة، كرسالة إلى الولايات المتحدة، ودول الغرب، بأن الصين، دخلت مرحلة جديدة، نحو زعامة العالم.
الانعطافة الثانية، في مسار التحولات العالمية، من مرحلة القطب الواحد، إلى العالم المتعدد الأقطاب، جاء مع فشل العدوان على اليمن، وانتقال اليمن (المقاوم) ليصبح طرفاً رئيساً، من أطراف حلف المقاومة، بما يشغله من موقع استراتيجي، يسيطر على الممرات المائية، وخطوط إنتاج ونقل الطاقة، وسلاسل التوريد، والتجارة العالمية.
الانعطافة الثالثة، في هذا المسار، كانت مع العملية العسكرية الروسية، في أوكرانيا، وفشل الرهان الأمريكي الأوروبي، على خسارة روسيا الحرب، التي نقلت الصراع لأول مرة، منذ الحرب العالمية الثانية، إلى داخل القارة الأوروبية.
وسط هذه التشابكات والتعقيدات، كانت قوى الاستعمار، الأمريكي الصهيوني الغربي، تعدّ العدة، لمرحلة جديدة من الصراع، تعمل فيها على توجه ضربة قاصمة، لقوى وتنظيمات المقاومة، وتقديم كل أنواع الدعم لأوكرانيا، في مواجهة روسيا، وصولاً إلى الدخول المباشر في مواجهتها، ونقل المواجهة مع الصين، إلى مرحلة أكثر سخونة، لتأتي عملية طوفان الأقصى، وتداعياتها، لتفاجئ الجميع، وتغيّر كل شيء، لأنها جاءت نتاجاً وتتويجاً، لكل تفاصيل هذا المسار، من الصراعات والمواجهات، وامتداداتها الإقليمية والدولية، لكن أبرز ما أكدته، أنها أعادت الصراع، إلى أساسه، وهو المواجهة، مع المشروع الأمريكي الصهيوني، لتجديد السيطرة والهيمنة، على المنطقة والعالم، ولهذه الأسباب، ستكون لطوفان الأقصى، نتائجُ زلزالية، ستغير وبعمق، الخرائط الجيوسياسية للمنطقة والعالم، وستسقط معها امبراطوريات، ودول عظمى، وأنظمة وتنظيمات، وستصعد أخرى، وهو ما سيكون موضوع المقال التالي.
للمقال تتمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الأستاذ أحمد رفعت يوسف – إعلامي و باحث سياسي.
*نشر المقال في صحيفة “لا” اليمنية.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً