بقلم الأستاذ أحمد رفعت يوسف*
ما يجري في فلسطينَ المحتلة اليوم، ليس مجرد معركة عادية، وإنما صراع عميق وشرس، تتداخل فيه كل التشابكات، وميادين الاشتباك والصراع، بين المنظومة الغربية الرأسمالية المتراجعة، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والمنظومة الشرقية الصاعدة، برؤوسها الصين وروسيا وإيران.
لهذه الأسباب، سيكون من الصعب، على قرارات الأمم المتحدة، والوساطات الجارية، وقف الصراع، الذي سيبقى مستمراً، ولن يتوقف إلا في حالتين.
الأولى: حصول تطور دراماتيكي، يؤدي إلى إقرار طرف بخسارته المعركة، بما يترتب عليه من نتائج زلزالية.
الثانية: إقرار أطراف الصراع، بالوقائع الجيوسياسية الجديدة، في كل أماكن الاشتباك الإقليمية والعالمية، والقبول بـ (يالطا جديدة) لتنظيم الانتقال، إلى العالم المتعدد الأقطاب.
العقدة في هذا الصراع، تكمن في المنظومة الأمريكية الصهيونية وملحقاتها، من دول وكيانات وأنظمة، فهي من جهة، تستشرس للحفاظ على هيمنتها، على السياسات والاقتصادات العالمية، وترفض الاعتراف بالوقائع الجيوسياسية الجديدة، ومن جهة ثانية، تبدو عاجزةً عن كسب المعارك، في كل نقاط الاشتباك، وأولها في فلسطين المحتلة، وجبهات الإسناد، وهذا ما يدخلها في حالة استعصاء، وأفق مسدود.
فقبول الوقف الكامل للقتال في غزة، سيعني الإقرار بهزيمة الكيان الصهيوني، ودخوله مرحلة من التيه السياسي والعسكري، والتفكك من الداخل، وسيضع الوجود الأمريكي في منطقة غرب آسيا على المحك، وهي التي عرفت على مدى التاريخ، بأنها المنطقة، التي تحدد مسار صعود وانهيار الإمبراطوريات، والدول العظمى، يقابله وقوف الفلسطينيين، حتى على أنقاض وأطلال بيوتهم، وهم يرفعون الأعلام وشارات النصر، وهو المشهد الذي سنراه في كل دول المنطقة، مع ما يعني ذلك من أبعاد جيوسياسية دراماتيكية، تطال المنطقة والعالم.
وفي محاولة للخروج من هذه المأزق، تحاول الولايات المتحدة الأمريكية، والكيان الصهيوني، المناورة وتهدئة الأوضاع، حتى إنجاز الانتخابات الأمريكية، تارة عبر مجلس الأمن الدولي، وتارة عبر الوساطات والضغوط، مع الأمل بانتظار معجزة ميدانية، وكسب الوقت، لمعالجة الاستعصاءات الفلسطينية والإسرائيلية، وامتداداتها.
ففي الجانب الفلسطيني، تستهدف الولايات المتحدة الأمريكية، الضغط على المقاومة، للموافقة على قرار مجلس الأمن رقم (2735) وما تطرح عليها الوساطات، بانتظار إعطاء فرصة، لالتقاط الأنفاس، والبحث الهادئ، عن طريقة للتعامل مع المقاومة وقياداتها، وتحديداً الميدانية منها، ونرى بوضوح كيف تترافق هذه المحاولات مع ضغوط وتهديدات قطرية مصرية، لقيادة حماس، بالطرد والملاحقة، إذا لم توافق على قرار مجلس الأمن وما يطرح عليها من اقتراحات تتم صياغتها، بكلمات عامة وفضفاضة، بما يسمح للمقاومة، بالقول إنها تحقق أهدافها، لكن المشكلة، ستكون في التفاصيل والتفسيرات، وهي المهمة، التي يبرع فيها الكيان الصهيوني والأمريكيون.
وفي الجانب الإسرائيلي، تستهدف إدارة بايدن، دفع الأمور لإجراء انتخابات جديدة، تأتي بغانتس (رجل أمريكا) رئيساً للحكومة، وترك نتنياهو، يعارك لتحديد مصيره الشخصي، وهو المهدد بالسجن، وقد يكون الهدف تحميله، مع عدد من القادة السياسيين والعسكريين، مسؤولية طوفان الأقصى، والفشل في تحقيق أهداف العدوان، وهذا يعطي البراءة لبايدن وإدارته، أمام الرأي العام الأمريكي والعالمي، من مسؤوليته عن المشاركة في العدوان، ومحاولة ووقف تدهور شعبيته، وما استقالة غانتس من مجلس الحرب قبل قرار مجلس الأمن، إلا تأكيد على هذا التوجه.
نتنياهو الذي يدرك بالتأكيد، كل هذه التوجهات، لن يستسلم بهذه السهولة، لأن موافقته ستعني سقوط حكومته فوراً، وبالتالي نراه يعطي موافقات مواربة، ويحاول بما تبقى له من “حكومة عرجاء” المناورة على أمل تحقيق إنجازات ميدانية نوعية تنقذه، مثل الوصول إلى المزيد من الأسرى، أو محاولة قتل أو أسر قادة المقاومة.
ومع أن كل هذه الجهود والوساطات، سقفها الأعلى، محاولة تحقيق تهدئة مؤقتة، على الجبهة الفلسطينية، لكن المهمة الأكبر والأصعب، ستكون في كيفية التعامل مع جبهات الإسناد، وبقية أطراف محور المقاومة، والتي باتت تشكل مشكلة أمريكية وإسرائيلية ولأدواتهم، لا تقل صعوبة وتعقيداً عن الجبهة الفلسطينية.
ففي الجبهة اللبنانية، سيكون من الصعب على الكيان الإسرائيلي، والإدارة الأمريكية، ترك الأوضاع على ما هي عليه، خاصة بعد الإنجازات الميدانية الهائلة، التي راكمتها المقاومة اللبنانية، وبالتالي سنرى محاولات ضغوط هائلة عليها، مقرونة بتهديدات، واستعراض قوة أمريكية وإسرائيلية، لمحاولة فرض وقائع على الأرض، تبعدها عن خط المواجهة مع فلسطين المحتلة، ومن غير المستبعد تحريك العملاء في لبنان، وعناصر من التنظيمات السورية المسلحة، المتواجدة في لبنان، لافتعال إشكالات ومعارك جانبية، لإرباك المقاومة، وليس مستبعداً أيضاً، أن يحاول نتنياهو، تسخين هذه الجبهة، بهدف جر إدارة بايدن مرغمة، إلى المواجهة المباشرة مع المقاومة اللبنانية، مع توهماته، بأن هذا الإجراء، قد يكون منقذاً له، وبالتالي إفشال الجهود الأمريكية لإسقاطه، لكن ما يمكن تأكيده، بأن قيادة المقاومة، مدركة لكل هذه الأمور، وتعرف كيف ستواجهها.
وعلى الجبهة السورية، التي تشكل جبهة إسناد لوجستي، وعمق استراتيجي سياسي وميداني، لكل أطراف محور المقاومة، بما يمكّنها من الاستمرار في المعركة، وتحقيق الأهداف، والتخطيط لما هو آت، قد تحاول الولايات المتحدة الأمريكية مباشرة، وعير بعض الأنظمة العربية، الاستمرار في تقديم الإغراءات للقيادة السورية، للبقاء خارج القتال المباشر، ومحاولة إبعادها أكثر، عن محور المقاومة، وقد يكون من حسن حظ القيادة السورية، أنها تمتلك هذه المرة، الأدوات وعامل الوقت للمناورة، لكن حديث الرئيس الأسد الأخير، أمام مؤتمر حزب البعث، الذي قال فيه، بأن القضية الفلسطينية والمقاومة، خطوط حمراء، حدد موقع ومكانة سورية في هذا الصراع، بشكل واضح.
وفي العراق، سيؤدي وقف القتال، إلى فتح الباب أمام المطالبات، بإخراج المحتل الأمريكي، وهو الشرط الأساسي، الذي وضعته فصائل المقاومة، للحكومة العراقية، والإدارة الأمريكية، لبحثه كشرط لوقف استهدافها القواعد والمواقع الأمريكية، في العراق وسورية، بعد الضربة التي وجهتها، للموقع الأمريكي في الأردن، والرد الأمريكي.
وفي الميدان اليمني، بات من الواضح، بأن مراكمة اليمن (المقاوم) لإنجازاته المبهرة، في المواجهة البحرية، مع الأمريكيين والبريطانيين، وفي الحصار البحري للكيان الصهيوني، بات يشكل مشكلة حقيقة وعويصة لهم، مضافاً إليها، أنها تفتح بشكل مباشر، مصير عملاء وأدوات أمريكا في المنطقة، وتحديدا النظامين السعودي والإماراتي، لتأتي الضربة اليمنية الاستباقية، بالإعلان عن القبض، على شبكة واسعة من العملاء والجواسيس، الذين يعملون لصالح المخابرات الأمريكية، والموساد الإسرائيلي، لتشكل ضربة مؤلمة، للإدارة الأمريكية والحكومة الإسرائيلية، في جهودها لمعالجة الأوضاع، خاصة وأن مثل هذه الشبكات، يكون لها امتدادات وتداعيات خارجية، لا تقل خطورة عن الداخلية، وهذا يشكل خطراً إضافياً، فتحته الجبهة اليمنية.
هذه الوقائع الميدانية والسياسة، تؤكد أن قرار مجلس الأمن الدولي وجهود الوساطات، لن تتمكن من وقف العدوان الصهيوني الأمريكي، على الشعب الفلسطيني، وأقصى ما يمكن أن تقدمه، هو مجرد محاولة لتهدئة الجبهة الفلسطينية، ولكنها ستبقى محكومة بأمد حدوده القصوى الانتخابات الأمريكية، وهذا سيبقي المنطقة، مفتوحة على كل الاحتمالات.
للمقال تتمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الأستاذ أحمد رفعت يوسف – إعلامي و باحث سياسي.
*نشر المقال في صحيفة “لا” اليمنية.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً