بقلم الدكتور آصف ملحم*
يبدو أنّ العديد من الأطراف الغربية غير قادر على التأقلم مع فكرة أن روسيا حققت نصراً ساحقاً عليهم مجتمعين، وأقصد بذلك (الغرب الجماعي). ففي هذه المواجهة المستمرة منذ قرابة العامين، توعّد الغرب روسيا، وأرعد وأبرق، وأرغى وأزبد، إلا أنه لم يحصد غير الفشل!
تكمن المفارقة الكبرى، التي لا تستقيم في عقل أي حكيم أو محلل، في إصرار الغرب على اتّهام روسيا بكل ما يحل به من مصائبَ وكوارثَ!
نعم، قد يستطيع الغرب إقناع الناس غير المطلعين على خفايا المسألة بأنّ روسيا قامت بـ (غزو غير شرعي) لأوكرانيا. ولكن كيف يمكن إقناع هؤلاء الناس بأنّ روسيا هي السبب في فشل السياسات الأوروبية المتبعة في مواجهة هذا (الغزو الروسي غير الشرعي)؟
روسيا لا تتدخل في إقرار ما تتّخذه الدول الأوروبية من إجراءات أو تطبّقه من عقوبات عليها، وهذا واضح. كما أن المسألة لم تبدأ مع بداية العملية العسكرية الروسية الخاصة، بل بدأت منذ عام 2014. لذلك يبرز السؤال الجوهري، الذي قد يطرحه كل مراقب:
ألم يحن الوقت كي يتعلم الأوروبيون من أخطائهم؟
يبدو بوضوح أنهم لم يتعلموا، أو أنهم لا يريدون التعلم؛ فبدلاً من البحث عن حلول تنهي حالة التوتر وتحقن الدماء في أوكرانيا، بدأوا بإثارة القلاقل والمشاكل بهدف تسجيل أهداف وهمية في المرمى الروسي؛ وهذا يذكرنا بحالِ من خسر منازلةً ما فهرب بعيداً عن الحلبة وهو يشتم خصومه كنوع من التعويض النفسي عن مرارة الهزيمة.
يرتبط الموضوع الذي نريد مناقشته هذه المرة بقرار فنلندا إغلاق أربعة معابرَ حدودية مع روسيا ابتداءً من 18 نوفمبر الجاري؛ ثلاثة معابر تقع على الحدود مع مقاطعة لينينغراد الروسية، وواحد يقع على الحدود مع جمهورية كاريليا الروسية. كما أنّ فنلندا أعلنت عن استعدادها إغلاقَ كافة المعابر مع روسيا. ادّعت فنلندا أنها اتخذت هذا القرار لمعالجة مسألة تدفق المهاجرين غير الشرعيين من روسيا!
في الواقع، تدفّق اللاجئين من روسيا إلى أوروبا عبر الحدود الروسية-الفنلندية لم يتوقف في السنوات الأخيرة. وهؤلاء المهاجرون من جنسيات شرق-أوسطية وأفريقية، وتحديداً من: سورية، العراق، الصومال، اليمن… إلخ.
إذ تشير التحقيقات الصحفية إلى أن المهاجرين يستخدمون هذا الطريق، على الرغم من أنه أطول وأكثر كلفةً، لأنه طريق بري، فهو أكثر أماناً من العبور إلى أوروبا عن طريق البحر الأبيض المتوسط. فلقد كان مصير الكثير من القوارب المبحرة إلى أوروبا الغرق في عرض البحر.
في هذه المرة، تتهم هلسنكي، على لسان الرئيس الفنلندي ساولي نينيستو، موسكو باستخدام المهاجرين “لزعزعة استقرار” جارتها، وأنّ حرس الحدود الروسي يساعدون اللاجئين على عبور الحدود الروسية الفنلندية! وزارة الخارجية الروسية بدورها وصفت هذه الاتهامات بأنها “غريبة للغاية”. وأعرب الكرملين عن أسفه إزاء “ابتعاد هلسنكي الواعي” عن “المستوى الجيد في العلاقات الثنائية”.
في الواقع، لا يمكن لموسكو أن تمنع الراغبين بالعبور إلى فنلندا، إذا كان هؤلاء يقيمون على الأراضي الروسية بشكل قانوني. في الوقت نفسه، لا يبدو واقعياً أن تقوم روسيا بدفع الأجانب المقيمين على أراضيها إلى الهجرة إلى أوروبا.
لذلك، فإننا نعتقد أن دعوى هلسنكي لا تخلو من الابتزاز المقصود لموسكو؛ ففي السنوات الأخيرة لاحظنا طغيان العامل النفسي وغياب العقلانية في الكثير من القرارات الأوروبية حيال روسيا؛ وخاصة العقوبات، التي أضرّت بأوروبا قبل أن تؤثر على روسيا.
ما يعزز هذا الاستنتاج هو أزمة الهجرة في صيف وخريف عام 2021 بين بيلاروسيا وجاراتها، بولندا وليتوانيا ولاتفيا. فلقد حاول المهاجرون بشكل جماعي العبور من بيلاروسيا إلى دول الاتحاد الأوروبي. وقتها اتّهمت الدول آنفة الذكر مينسك بإرسال اللاجئين إليها عمداً، بهدف شن (حرب هجينة) للضغط على الاتحاد الأوروبي. نفى الرئيس ألكسندر لوكاشينكو هذه الاتهامات، لكنه أوضح أن السلطات البيلاروسية لن توقف تدفق المهاجرين المتجهين إلى الدول الأوروبية.
المشهد ذاته يتكرر هذه المرة مع روسيا، فلم يكتفِ الجانب الفنلندي بتوجيه الاتهامات، بل إنّ بعض الشخصيات دعت إلى التجمع والاحتجاج أمام السفارة الروسية في هلسنكي في يوم 19 نوفمبر الجاري. وعلى الرغم من أن عدد المحتشدين لم يتجاوز العشرات، إلا أن ما يثير الانتباه هو طبيعة اللافتات التي رفعها المتظاهرون؛ إذ أنها كانت موجّهة ضد شخص الرئيس بوتين، معتبرين أن سبب كل ما يجري هو (التأثير الهجين) على أوروبا من طرف روسيا.
علاوةً على ذلك، فإن الموقف الفنلندي لا يخلو من ازدواجية في المعايير، لأن السلطاتِ الفنلندية نفسَها تتعامل مع اللاجئين القادمين من أوكرانيا بطريقة مختلفة، فهؤلاء مرحّب بهم دائماً مقارنة مع المهاجرين من جنسيات أخرى. وهذا يُبرز بوضوح أنّ السبب لا يكمن في الهجرة غير الشرعية بل في مسائل أخرى، تتمحور بشكل أساسي حول محاولة تشويه سمعة روسيا وابتزازها.
فضلاً عن ذلك، يغيب في موقف هلسنكي احترام حقوق الإنسان وحقوق اللاجئين، التي يطالبون بها كل دول العالم وعلى كل المنابر الدولية، لا بل إن الغرب استخدم (حقوق الإنسان) كورقة لغزو الدول الأخرى، والحروب التي خاضها الغرب في العقود الأخيرة خير دليل على ذلك.
ختاماً، أعتقد أن البحث في هذا الموضوع يتطلب كتابة عدة مقالات، وما أوردناه في الأعلى كافٍ للإضاءة على هذه المسألة والبرهان للقارئ الكريم طبيعة المواقف والسياسات اللاعقلانية في أوروبا. فجميعنا يعلم أنه يمكن حل أي مسألة إذا توفرت النية لذلك، فكان الأجدر بفنلندا أن تدعو روسيا لمناقشة الموضوع برويّة وتأنٍّ بدلاً من هذا التحريض، الذي لا طائل منه!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور المهندس آصف ملحم – مدير مركز جي اس ام للأبحاث والدراسات.
**هذه المقالة تم نشرها أولاً في موقع الحوار المتمدن.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً