بقلم الدكتور أحمد سيد داود*
كثيرًا ما يتساءل الآباء والأمّهات والمربّون ومقدّمو الرعاية لأطفال مرحلة ما قبل المدرسة (من السنة الثانية إلى السنة الخامسة من العمر)، عن حاجات النموّ والتربية لطفل هذه المرحلة ومتطلّباتها. نقصد الحاجات التي تُؤمِّن أن يكون انتقاله إلى المرحلة الأساسيّة الأولى (من الصف الأوّل إلى السادس) انتقالاً ملائماً ومسانداً له في عمليّة تعلُّمه، ومنسجماً كذلك مع حاجاته وإمكاناته النمائيّة المختلفة. هذا النوع من الانتقال يحقّق له شخصيّة سويّة بمختلف أبعادها، وتعلّماً مرناً وممتعاً في المراحل التعليميّة المتتالية خلال السنوات الدراسيّة وبعدها، إذ تُصقل شخصيّته في هذه المرحلة، لما تتضمّنه من استراتيجيّات تعلّميّة تسهم في جعله شخصاً مبادراً وناشطاً ومسؤولاً في عمليّة تعلّمه. من هنا نسأل: كيف نساند نموّ طفل مرحلة ما قبل المدرسة، لنُحقِّق له انتقالاً سلساً ومناسباً إلى المرحلة الأساسيّة الأولى؟
يهدف هذا المقال إلى تقديم استراتيجيّات إلى مقدّمي الرعاية لطفل مرحلة ما قبل المدرسة وما يسبقها من العمر (من الميلاد إلى السنة الثالثة). وذلك بالتركيز على أربعة أبعاد أساسيّة، هي: الخصائص النمائيّة للطفل، وأسس النموّ الشموليّ التكامليّ له، وأسس التعلّم النشط الممتع، والاستعداد للتعلّم الأكاديميّ.
الخصائص النمائيّة للطفل
يُقصَد بالخصائص النمائيّة القدرات الجسميّة والحسّ-حركيّة والمعرفيّة واللغويّة والاجتماعيّة والانفعاليّة، والتي يتميّز بها الفرد في كلّ مرحلة من مراحل نموّه، حتّى الوصول إلى مرحلة إتمام نضجه واكتمال شخصيّته من مختلف جوانبها. تُحدِّد هذه الخصائص ما يستطيع الفرد القيام به في كلّ مرحلة عمريّة.
من الأمثلة على ذلك في ما يتعلّق بالخصائص الحسّ-حركيّة، قدرة طفل في سنّ الخامسة على السيطرة على عضلاته الدقيقة في أصابع اليد بالدرجة التي تمكّنه من الإمساك بالقلم ورسم خطوط مستقيمة في شتّى الاتجاهات. لكنّ هذه القدرة لا تمكّنه من الكتابة على السطر، إذ تتطلّب هذه المهارة تحكّماً دقيقاً بالعضلات، ومستوىً متقدّماً من التآزر الحسّ-الحركيّ الذي لا يتوفّر عند الطفل قبل سنّ السادسة، ولذلك يؤدّي طفل الخامسة هذه المهمّة بصعوبة شديدة.
أمّا في ما يتعلّق بالخصائص المعرفيّة العقليّة، فيتعلّم طفل هذه المرحلة العمريّة من خلال الخبرات المحسوسة، أي بالتفاعل مع مواد البيئة المادّيّة المحيطة وتجهيزاتها. الأمر الذي يجعل تعلّمه مفهوماً وذا معنى بالنسبة إليه، وقابلاً للنقل من سياق إلى آخر. كما أنّ تفاعله مع الأفراد المحيطين به في البيئة الاجتماعيّة يُعتبَر عنصراً أساسيّاً في تعلّمه.
بالنسبة إلى الخصائص اللغويّة، نجد من أبرز الأمثلة عليها اعتماد لغة الطفل بمعظمها على الكلمة المسموعة أكثر من الكلمة المكتوبة، إذ يتأثّر النموّ اللغويّ عند الطفل بعدّة عوامل، من أهمّها تفاعله مع الكبار من حوله والجنس الاجتماعيّ للطفل، حيث تعتبر الإناث أفضل نُطقاً وأسرع حديثاً من الذكور في هذه المرحلة العمريّة.
يشكّل الوعي العميق بهذه الخصائص، لدى مقدّمي الرعاية، عاملاً أساسيّاً في إتاحة فرص النموّ والتعلّم للطفل، بما يتناسب معها ومع متطلّباتها في كلّ عمر من مرحلته الأولى (الميلاد – خمس سنوات). ذلك إذا أخذنا بعين الاعتبار الفروقات الفرديّة بين الأطفال، وما تتضمّنه من الخلفيّات الثقافيّة والأسريّة والاجتماعيّة وغيرها، على النحو الذي يضمن له النموّ السليم، والتعلّم الممتع النشط الذي يكتسب من خلاله المعرفة بمختلف أشكالها اكتساباً قابلاً للتطبيق العمليّ في حياته اليوميّة.
أسس النموّ الشموليّ التكامليّ للطفل
يُوظَّف هذا النهج في رعاية الطفولة المبكرة (من الميلاد إلى أواخر السنة الثامنة) وتنميتها، وقد تطوّر وفق المسار الجمعيّ في العالم العربيّ، وصار يُعرَف باسم النهج الشموليّ التكامليّ. يُقصَد بالشموليّ النظر إلى الطفل ككلّ واحد مُوحَّد، له حاجات متنوّعة متداخلة، يُؤثِّر بعضها في بعضها الآخر. أمّا التكامليّ فيُقصد به أخذ حاجات الطفل جميعها بعين الاعتبار، فعندما نُركِّز اهتمامنا على حاجة معيّنة، يجب ألّا نهمل الحاجات الأخرى في الوقت ذاته، بل أن نسعى دائماً إلى توفير خبرات وخدمات متكاملة له.
يتضمّن هذا النهج مجموعةً من المبادئ التي تندرج تحت ثلاثة محاور، هي: الطفل والطفولة، والطفل والبيئة، والطفل والبرنامج. ومن أبرز هذه المبادئ ما يلي:
-الطفولة مرحلة عمريّة قائمة ومتكاملة في حدّ ذاتها، ومن حقّ الطفل أن يحياها بكاملها.
-يحدث النموّ في خطوات متسلسلة يمكن التنبّؤ بها، وتتخلّلها فتراتٌ تُكوّن جاهزيّة الطفل للتعلّم.
-تربية الطفل تفاعلٌ بينه وبين بيئته البشريّة (مقدّمي الرعاية والأقران) والمادّيّة (التجهيزات والمواد التربويّة التي تتضمّن المعرفة بمختلف أشكالها
-الاعتراف بأهمّيّة الدافعيّة الداخليّة للطفل التي تقوده إلى المبادرة للقيام بنشاطات يوجّهها بنفسه، ويعدّ التشجيع عليها أمراً مهمّاً لتحقيق مختلف جوانب شخصيّته.
-انطلاق تربية الطفل من الأمور التي يستطيع القيام بها، وليس ممّا يعجز عنه.
إذا تأمّلنا في هذه المبادئ ضمن مجالاتها الثلاثة، نستخلص الجوهر العام الذي يجب أن يُبنَى عليه فهمنا للطفل وإمكاناته وحاجاته، ولعمليّة نموّه وتعلّمه، الأمر الذي ينسجم انسجاماً تامّاً مع الخصائص النمائيّة له، ومتطلّبات النموّ والتعلّم فيها، بحيث تُبنَى أساليب التربية واستراتيجيّاتها والبرامج التعلّميّة والتعليميّة على هذا الجوهر وتنطلق منه.
أسس التعلّم النشط الممتع للطفل
تُعتَبر مؤسّسات مرحلة ما قبل المدرسة (الحضانة والروضة) الأساسَ المحوريّ في تحقيق فرص النموّ المتكامل للطفل (المعرفيّ والاجتماعيّ والانفعاليّ والجسميّ والأخلاقيّ)، عبر خلق فرص للتعلّم النشط التفاعليّ؛ إذ يتعلّم الطفل بالممارسة والعمل والتفاعل النشط مع تجهيزات البيئة المادّيّة المحيطة، فيكون هو مركز عمليّة التعلّم، ومبادراً نشطاً في تعلّمه. يكتسب المعرفة اكتساباً ذاتيّاً، محققّاً بذلك متعة التعلّم والاكتشاف، باحثاً مستمراً مدفوعاً بحبّ الاستطلاع والرغبة في فهم البيئة المحيطة به بمختلف ظواهرها وموجوداتها. ويكون دور المربّي، في هذا النوع من التعلّم، مُيسِّراً لعمليّة تعلّم الطفل ومسانداً له فيها؛ أي أنّ تحقيق التعلّم النشط الممتع للطفل، وإكسابه المعرفة ذات المعنى القابلة للتطبيق في حياته اليوميّة بمختلف سياقاتها، يتمّان بفهمنا العميق لخصائصه النمائيّة، ولمبادئ النهج الشموليّ التكامليّ في بناء مختلف خبرات التعلّم للطفل، سواءٌ في البيت أم في الحضانة والروضة.
الاستعداد للتعلّم الأكاديميّ
تشكّل السنوات الأولى من عمر الطفل مرحلة مفصليّة في تنمية الاستعداد للتعلّم الأكاديميّ لديه، أي في تهيئته لتعلّم القراءة والكتابة والمنطق الرياضيّ في المرحلة التعليميّة اللاحقة. يكون ذلك بتطوير مهاراته الذهنيّة المعرفيّة والحسّ-حركيّة والجسميّة العضليّة واللغويّة، حتّى يصبح جاهزاً للتعامل مع الرموز المجرّدة بشكلٍ تدريجيّ، ولا سيّما عند الانتقال إلى المرحلة الأساسيّة الأولى (ما بين السادسة والسابعة من العمر).
يتوقّف مدى نجاح الحضانة والروضة في مساندة الطفل لتحقيق هذا الاستعداد، على قدرتهما على تطوير منهاج قائم على مبدأ التعلّم من خلال اللعب، بحيث يكون لعباً مُنظَّماً ومُخطَّطاً له من المربّية، يوظّف البيئة المادّيّة الداخليّة والخارجيّة بمختلف تجهيزاتها وموادها التربويّة. الأمر الذي يجعل الطفل متعلّماً نشطاً، يتعلّم بمتعة ومبادرة ذاتيّة، وتكون المربّية ميسّرة للتعلّم.
يتحقّق الاستعداد للتعلّم الأكاديميّ عند الطفل بالمرور في المراحل المتعاقبة الآتية:
1.التمهيد (من الميلاد إلى بداية سنّ الثالثة): تنمو فيها شخصيّة الطفل وفق تفاعله مع البيئة المادّيّة والبشريّة المحيطة به، فيبدأ بتشكيل الشعور بالثقة والاستقلاليّة، كما يبدأ بالتعامل مع المهارات الأكاديميّة بشكلها المحسوس، مثل التعامل مع الكتب ومحاولة الرسم والتشكيل والتخيّل وغير ذلك.
2.الوعي الحسّيّ التفاعليّ (بين سنّ الثالثة والرابعة): يُشكِّل الطفل فيها مدركاته الأوّليّة عن العالم المحيط به، وذلك بتفاعله مع البيئة المادّيّة والاجتماعيّة والثقافيّة؛ فمن خلال اللعب يُطوِّر الطفل قدراته ومهاراته العضليّة والفكريّة واللغويّة والاجتماعيّة والنفسيّة.
3.الإدراك الرمزيّ المبدئيّ (بين سنّ الخامسة والسادسة): يتعامل الطفل فيها مع الخبرات الرمزيّة كالتمثيل والرسم والتشكيل، فيُكوِّن مدركاته عن المفاهيم المجرّدة كاللون والعدد والحجم والكلمة والحرف وغيرها، كما يبدأ بفهم علاقة الأشياء ببعضها بعضاً، ويستطيع القيام ببعض العمليّات العقليّة المعرفيّة البسيطة، تمهيداً لقيامه بالعمليّات الذهنيّة الأكثر تعقيداً في وقت لاحق.
4.القراءة والكتابة والمنطق الرياضيّ (بين سنّ السابعة والثامنة): يصبح الطفل جاهزاً لاكتساب مهارتَي القراءة والكتابة، ويبدأ كذلك بالتعامل التدريجيّ مع مفاهيم الحساب المجرّدة، كالأعداد والعمليّات الحسابيّة البسيطة.
نلاحظ ممّا سبق، أنّ ثمّة تدرّجاً في نوعيّة الخبرات المُقدَّمة إلى الطفل ومستوياتها، من المحسوس الكلّيّ إلى المجرّد الرمزيّ، بما ينسجم مع خصائصه النمائيّة وآليّات التعلّم لديه وفق سنيّ عمره؛ فهي مراحل متتالية متعاقبة يجب أن يمرّ الطفل في كلٍّ منها مروراً حقيقيّاً، على النحو الذي تُتاح له فيه خبرات التعلّم والنموّ المناسبة، كي يحقّق قدرته على التعامل مع مهارات القراءة والكتابة والتفكير والمنطق الرياضيّ، وغيرها من مجالات المعرفة التي تُبنَى عليها بناءً مناسباً يُيسِّر تعلّمه، ليكتسب بذلك الثقة بالنفس ومفهوم الذات الإيجابيّة عبر المراحل التعليميّة اللاحقة، بالشكل الذي ينعكس على الممارسات المختلفة في حياته اليوميّة بشتّى أبعادها.
انطلاقاً ممّا سبق، تظهر جليّاً أهمّيّة فهم طبيعة عمليّة نموّ الطفل في السنوات الأولى من عمره، ومتطلّباتها التي تتوجّب على مقدّمي الرعاية مراعاتها. بالإضافة إلى أهمّيّة العمل المشترك بين البيت ومؤسّسات مرحلة ما قبل المدرسة (الحضانة والروضة)، من أجل تحقيق نموّ متكامل وسليم لمختلف جوانب شخصيّة الطفل، وتهيئته للانتقال السليم إلى المرحلة التعليميّة اللاحقة انتقالًا يدعم عمليّة تعلّمه ونموّه ويُيسِّرها. تبرز هنا أيضًا أهمّيّة برامج إعداد المربّين في الجامعات والكلّيّات للعمل مع أطفال مرحلة ما قبل المدرسة، بما ينسجم مع خصائصهم النمائيّة وطبيعة عمليّة التعلّم لديهم ومتطلباتها، وبالتركيز على الجانب العمليّ التطبيقيّ في سنوات دراستهم الجامعيّة. يَظهر كذلك مدى الحاجة إلى تدريب مربّي هذه المرحلة خلال الخدمة، وتطوير برامج مؤسّسات ما قبل المدرسة، بحيث تُبنَى على أساس التعلّم النشط التفاعليّ المحسوس الذي يُتيح للطفل فرص التعلّم من الممارسة والتفاعل المباشر مع المواد والظواهر المختلفة في البيئة المحيطة.
بناءً على ما سبق، نحن بحاجة ماسّة إلى النهوض بالعمليّة التعلُّميّة التربويّة في مرحلة ما قبل المدرسة، وبناء شراكة فعليّة مع أولياء الأمور، كي يتكامل العمل في ما بينهم بالاتجاه الذي يحقّق التطوّر والتعلّم السليم للطفل، ويحدّ من المشكلات التي قد يعانيها الطفل خلالها، سواء أكانت شخصيّة سيكولوجيّة (القلق والخوف وعدم الثقة بالنفس والخجل والشعور بالذنب…)، أم أكاديميّة تربويّة (الرسوب والانسحاب المدرسيّ والتراجع الأكاديميّ…). يسهم ذلك كلّه إسهاماً إيجابيّاً في دعم الطفل ومساندته لبناء شخصيّة سويّة من مختلف جوانبها، بحيث تتيح له هذه الشخصيّة فرص التكيّف الصحيح مع ذاته ومجتمعه، فيتقبّل نفسه بمميّزاتها وتحدّياتها، ويكون قادراً على تحديد أهدافه المستقبليّة وفقها، فيبدع ويتميّز في مجتمعه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور أحمد سيد داود – باحث في قضايا التعليم
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً