بقلم الدكتور آصف ملحم*
كل من يعرف طبيعة و بنية النظام و آليات الإدارة في الولايات المتحدة الأمريكة لا بد و أنه قد تنبأ بإمكانية وقوع حادثة محاولة الاغتيال. و هنا لا بد من التوقف عند مجموعة من المحددات و الضوابط و المعايير، و سنجد بعدها أن الرئيس السابق ترامب يلعب خارج الحلبة تماماً، و هذا ما يرجح إمكانية وقوع هذه الحادثة.
النقطة الأولى، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تقوم السياسة الأمريكية على قاعدة أنه للولايات المتحدة مصالح وطنية و مصالح دولية، و على صانع القرار أن يستند إلى هذه القاعدة في أي خطط مستقبلية.
تستبطن هذه القاعدة الكثير من الخفايا، التي يمكن تلخيصها بعبارة واحدة: من حق ساكن البيت الأبيض التأثير على سياسات أي دولة في العالم لصالح أي شركة أمريكية، و لا يوجد محرمات أو محظورات في ذلك. فأرباب الشركات (أو الدولة العميقة) يحسبون الأموال، و لا يعبأون بالطريقة التي وصلت إليهم، ما دام أي اضطراب في العالم يحدث بعيداً عن الولايات المتحدة الأمريكية. بالمقابل فإن ساكن البيت الأبيض هو من عليه رسم السياسات، و عنده ما يكفي من الحصانة و الحرية لإقرار ما يشاء بشرط أن لا يُغضِب أرباب الشركات. و هكذا تتم إدارة جميع الملفات في الولايات المتحدة الأمريكية.
حيال هذا الموضوع فإن ترامب يغرّد خارج السرب تماماً، و يسير في طريق غير مسموح له السير فيه؛ كالموظف الذي يحاول التمرد على صاحب العمل. أي أنه يضع نفسه في مواجهة مباشرة مع كل مراكز القوة في الدولة العميقة، و لا أعتقد أنه يوجد شخص قادر على الصمود في مثل هذا الموقف.
النقطة الثانية، و هي ترتبط بآلية انتخاب الرئيس في الولايات المتحدة، وما يكتنف مصطلح (الديمقراطية العددية) من غموض و تناقض.
تعني (الديمقراطية العددية) أننا أمام آلية تساوي بين صوت رجل أعمال كبير كـ (بيل غيتس) و صوت موظف عنده، أو تساوي بين صوت من حاول قتل ترامب و صوت الرئيس الحالي بايدن أو وزير الخارجية بلينكن. و لا أعتقد أن العقلاء لا يفهمون أن هذه المساواة غير صحيحة و غير عادلة بكل المقاييس. لذلك فالانتخابات الرئاسية الأمريكية هي أقرب للمسرحية الإعلامية. و المطلوب من الشارع الأمريكي الترجيح بين مرشحين متكافئين تماماً، لأنه لا يجوز بشكل من الأشكال أن يقوم الرئيس بمفرده برسم السياسات الأمريكية، كما أنه لا يستطيع أيضاً، و لا يوجد شخص قادر على اختزال الولايات المتحدة بمفرده و بشخصه.
في هذا السياق، قد يكون من المناسب التذكير بتوزيع عالم الاقتصاد الإيطالي فيلفريدو باريتو، الذي يؤكد أن 80% من ثروة الدولة تتركز بيد 20% من السكان. و الحقيقة أن هذا المبدأ ينطبق على كل الظواهر الاجتماعية، فنحن نعلم بالملاحظة المباشرة أن (الذكاء و المواهب و التميز و الشهرة) تتركز عند الفئة الأقل في المجتمع، و هذا الفئة مرتبطة بالدولة العميقة أو هي جزء منها. لذلك من يسهم في بناء أي دولة و تقدمها هي هذه الفئة الصغيرة الـ 20%، و عملياً مصالح هذه الفئة هي التي تعكس مصلحة الدولة.
الآن، لو تأملنا خطاب ترامب، فهو أقرب إلى الخطاب الشعبوي، فهو رجل أعمال و ليس رجل سياسة، أي أنه يحاول إرضاء الـ 80% على حساب الـ 20%، و هذا سيؤدي إلى خلق الكثير من الأعداء له ضمن الفئة الثانية، و الفئة الثانية هي الأقوى و تملك أدوات أكثر للتغيير و التأثير، من هنا نفهم أن ترامب من جديد يضع نفسه في تحدٍ و مواجهة مع فئة قليلة و قوية، و لا يوجد أي شخص قادر على الانتصار في مثل هذه المواجهة. و الحقيقة أن محاكمة ترامب بتهم قديمة، تدل على أنه سبّب الصداع للكثيرين في هذه الفئة، خاصة إذا علمنا أن هناك في الولايات المتحدة من هو أفسد من ترامب و لكنه يتمتع بالحصانة من أي تهم أو تحقيقات!
حول الحادثة بحد ذاتها، فمن الواضح أن من قام بذلك ليس قناصاً محترفاً، لأن ترامب لم يحرك رأسه عند اختراق الرصاصة لأذنه؛ و في مثل هذه الحالة كان بإمكان أي قناص محترف إصابة رأسه بشكل مباشر. و هذا يعني أن الشاب الذي قام بذلك هو شاب مغمور تم استئجاره مقابل مبلغ من المال، أي أنه أداة رخيصة، و كان سيتم قتله سواء أصاب ترامب أو لم يصبه. المهم في هذا السياق من قام بالتخطيط للعملية بحد ذاتها، و أعتقد أن شرحنا السابق يدل على أن أحد مراكز القوة في الدولة العميقة هو من خطط لذلك.
بناءً على ما سبق، فإن هذه الحادثة ستمر مرور الكرام تماماً، كما مرت حادثة اغتيال جون كينيدي، و لن تترك أي تداعيات داخلية، خاصةً أن ترامب لم يُقتَل.
لكن، وفق تقديري، ترامب قد فهم الرسالة جيداً، و إذا حاول استغلال هذه الحادثة في حملته الانتخابية فسيكون قد وقع في أشد المحظورات، و ستكون المواجهة أشرس بينه و بين الدولة العميقة، و عندها يصعب التكهن بما يمكن أن تؤول إليه الأمور.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور آصف ملحم – مدير مركز جي إس إم للأبحاث و الدراسات (موسكو).
*تم نشر هذه المقالة سابقاً في صحيفة الجمهورية (اللبنانية).
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً