بقلم الدكتور آصف ملحم*
تصاعد الحديث في الأيام الأخيرة حول إمكانية السماح لأوكرانيا استهداف العمق الروسي بالصواريخ بعيدة المدى. روسيا، بدورها، وعلى جميع المستويات، بما في ذلك الرئيس بوتين، اعتبرت هذه الخطوة شراكة مباشرة للناتو في الحرب، وأنّ موسكو ستتخذ التدابير المناسبة.
سابقاً، كانت التحذيرات تصدر من وزارة الخارجية أو من مجلس الأمن القومي الروسيين، و بتعابير عامة، أما الآن فالتحذيرات من العواقب صدرت من جميع المسؤولين الروس. هذا يعني أنّ الردّ على هذه الخطوة سيكون حتمياً، لذلك يصبح السؤال عن ماهية الرد الروسي، واحتمال الصدام المباشر مع الناتو مشروعاً! يعتقد البعض أن روسيا قد تقوم بقصف مراكز اتخاذ القرار في الدول الغربية، و البعض الآخر يعتقد أن بوتين “يناور و يخادع”.
من نافلة القول، ليس من مصلحة روسيا استفزاز الناتو لدخول الحرب إلى جانب أوكرانيا؛ فهذا سيؤدي إلى تغيير موازين القوى بشكل كبير لصالح أوكرانيا. في هذا الحالة ستكون روسيا خاسرةً إذا لم تستخدم السلاح النووي، واللجوء إلى السلاح النووي سيؤدي إلى دمار شامل في كوكب الأرض.
هناك من يقول: قد يكون سبب تضافر هذه التصريحات الروسية إيقاظ واشنطن و لندن و دفعهم إلى التخلي عن السماح لأوكرانيا قصف العمق الروسي. لكن حدّة التصريحات وكثافتها تدل على أن الموضوع لا يقتصر على التحذيرات اللفظية، بل عند الكرملين ما يكفي من الدوافع لوضع الغرب أمام خيار الصدام المباشر مع روسيا.
في الواقع، تعتبر روسيا الحرب في أوكرانيا كأحد عناصر عملية شاملة لإعادة بناء النظام الدولي، وبالتالي فهي معنيّة بتنبيه الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة الأمريكية، إلى ضرورة الاتفاق معها حول أسس هذ النظام الجديد.
تكمن المشكلة في أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تنظر إلى الحرب في أوكرانيا كمعضلة كبيرة، و بسببها ستضطر للاتفاق مع روسيا حول شيء ما، بل إنها تنظر إليها على أنها فرصة لاستنزاف روسيا و تقوية صلتها بأوروبا، و قطع الطريق على الأخيرة للقيام بأي لعبة جيوسياسية بشكل مستقل عنها، سواء مع الروس أو مع الصينيين.
ما يقلق الغرب حقاً هو إمكانية تحول الحرب إلى حرب نووية؛ فالكثير من المسؤولين الغربيين رفض الدخول المباشر في الحرب، كما أن دعوة ماكرون لإرسال قوات إلى أوكرانيا قوبلت بالرفض من معظم القادة الأوروبيين. كما أن الرأي العام الغربي يقف ضد المشاركة في الحرب إلى جانب أوكرانيا، الأمر الذي قد يؤدي إلى تدمير الحضارة بحرب نووية.
لذلك فإن بوتين يضع الغرب أمام خيارين:
-إما الاتفاق مع روسيا حول أوكرانيا ضمن إطار شامل يمتد على كامل النظام الدولي.
-أو اندلاع حرب شاملة ستنتهي بحرب نووية، و سيتم اعتبار قصف العمق الروسي كذريعة لإمكانية اندلاع الحرب العالمية الثالثة.
بهذه الطريقة، ستكون الحرب العالمية الثالثة، و إمكانية اندلاع صراع نووي، موضوعاً في النقاشات العامة في المجتمعات الغربية، الأمر الذي قد يدفع إلى الضغط على القيادات الغربية للاتفاق مع روسيا. فإذا علمنا أن الانتخابات الأمريكية أصبحت قريبة جداً، بهذه الطريقة ترتفع أسهم ترامب مقارنة مع هاريس، الأمر الذي قد يدفع الإدارة الحالية إلى البحث عن اتفاق مع بوتين قبل نهاية فترتها.
في الواقع، عند بوتين مجموعة من الخيارات للرد على الخطوات التصعيدية الغربية:
1-توجيه إنذار للناتو مع مجموعة من المطالب، إذا لم يتم تنفيذها فهذا يعني اندلاع الحرب. في هذه الحالة يجب أن تكون روسيا قادرة على تنفيذ التهديدات إذا لم يتم تنفيذ المطالب، بما في ذلك الاستعداد لخوض حرب نووية.
2-القيام بردٍّ غير نووي على إحدى دول الناتو، مرفق برسالة بأنه في حال الردّ فإنّ الرد على الرد سيكون أقسى بما في ذلك إمكانية استخدام السلاح النووي. كأن يتم قصف بنى تحتية أو أنابيب نقل النفط و الغاز أو محطات كهربائية أو كابلات الاتصالات الضوئية تحت المحيطات أو القيام بهجومات سيبرانية.
3-استخدام مبدأ “انتظار الخطر أكثر رعباً من الخطر”. في هذه الحالة ستلجأ روسيا إلى مجموعة من الإجراءات، التي تشبه التحضير للرد، مثل:
-اختبار أسلحة نووية،
-قطع العلاقات الدبلوماسية و الاقتصادية و التجارية،
-دعوة المواطنين الروس لمغادرة دول الناتو.
هذه السيناريوهات جميعها قد تقود إلى حرب حقيقية بغضِّ النظر عن أن الغرب يرغب بذلك أم لا، وبغضّ النظر عن أن هدف الكرملين المناورة أم لا!
لذلك، فواشنطن أمام قرارات استراتيجية. فهل هي مستعدة لاستمرار دعم أوكرانيا بما قي ذلك توسيع دائرة الاستهدافات مع معرفتها بأن ذلك قد يقود إلى صدام مباشر مع روسيا؟
أو بالأحرى، هل هي مستعدة للحرب ضد روسيا من أجل أوكرانيا؟
إذا كانت الولايات المتحدة غير مستعدة، فماذا عليها أن تفعل في إطار استراتيجية “الحرب على نار هادئة”؛ أي تقديم المساعدات العسكرية دون توسيع هذه المساعدات خوفاً من الصدام المباشر مع روسيا؟!
و هل على الولايات المتحدة أن تفكر بشكل جدي للوصول إلى اتفاق مع روسيا، لأن الاستمرار بهذه الطريقة وصل إلى مرحلة خطيرة؟
لذلك لاحظنا أن كير ستارمر، رئيس الوزراء البريطاني، بعد زيارته إلى واشنطن في 13 من سبتمبر الجاري، قال: كان النقاشُ حول أوكرانيا ذا طبيعة استراتيجية. بالتالي لا نستبعد أن يكون النقاش قد دار حول هذه النقطة تحديداً؛ أي كيفية الاستمرار بدعم أوكرانيا دون استفزاز روسيا!
والآن، لا بدّ من البحث عن إجابة على السؤال:
ماذا سيتغير على الجبهة إذا سمح الغرب لأوكرانيا باستخدام صواريخ Storm Shadow البريطانية، أو نظيراتها الفرنسية من نوع Scalp، وكذلك صواريخ ATACMS الأمريكية، في العمق الروسي؟
هناك نوعان من صواريخ Storm Shadow، واحد مداه 250 كيلومتراً، و الثاني 560 كيلومتراً. أوكرانيا تسلمت النوع الأول.
صواريخ Storm Shadow و Scalp هي صواريخ جو-أرض، أي أن عملية الإطلاق تتطلب طائرة، و على هذه الطائرة التحليق بالقرب من الحدود الروسية، حتى تتمكن من إيصال الصواريخ إلى مسافات بعيدة في العمق الروسي، الأمر الذي قد يعرّضها لنيران الدفاعات الجوية الروسية. لذلك فإن كل عملية إطلاق ستكون معقدة، لأنه لا بد من التخلص من الدفاعات الجوية الروسية أولاً، لكي تتمكن الطائرة من إنجاز المهمة. لهذا السبب وحده، من غير المرجح أن يصبح استخدام هذه الصواريخ في روسيا واسع النطاق، فكل عملية قصف ستتطلب إجراءات معقدة لضمان سلامة الطائرة.
فضلاً عن ذلك، فإن كمية صواريخ Storm Shadow قليلة؛ فلقد أكّد الإعلام البريطاني أن أوكرانيا قد استنفذت تقريباً إمداداتها منها في الهجمات على شبه جزيرة القرم.
في هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أن قصف شبه جزيرة القرم بصواريخ Storm Shadow لم يؤثر على عمليات الإمداد للقوات الروسية العاملة في الجبهة الجنوبية.
ومع ذلك، إذا اعتمدنا على مدى صواريخ Storm Shadow، فإن هذه الصواريخ قادرة على الوصول إلى مدن كبيرة في روسيا، مثل فارونيج و ليبيتسك و روستوف و أريول و بريانسك و كورسك (انظر الشكل).
علاوة على ذلك، يحمل صاروخ Storm Shadow رأساً حربياً أثقل بمرتين من صاروخ ATACMS، ويصل وزنه إلى 460 كيلوغراماً. وهي قادرة على الطيران على ارتفاع منخفض، و بالتالي يصعب كشفها بالرادارات الروسية.
بدون أدنى شك، ستلحق الضربات الصاروخية بهذه الصواريخ أضراراً بالقوات الروسية، إلا أنها لن تغير مسار الحرب بشكل جذري؛ فأوكرانيا تستخدم صواريخ Storm Shadow وScalp منذ العام الماضي، وكذلك صواريخ ATACMS منذ ربيع عام 2024، ومع ذلك، فإن هذا لم يؤدِّ إلى تغيير جذري في الوضع في ساحة المعركة – فقد تقدمت القوات الروسية وواصلت التقدم، وتسارعت وتيرة الهجوم في الآونة الأخيرة.
هذا الأمر يفهمه الغرب جيداً، لذلك نلاحظ أنّ هنالك تريثاً قبل اتخاذ هذه الخطوات؛ فالغرب أمام معضلة حقيقية؛ فالسماح لأواكرانيا باستهداف العمق الروسي لن يغير من مسار المعركة كثيراً لصالح أوكرانيا، ولكنه خطوة خطيرة للغاية!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور آصف ملحم – مدير مركز جي إس إم للأبحاث و الدراسات (موسكو).
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً