بقلم الدكتور آصف ملحم*
يبدو أنّ روسيا بدأت تلعب اللعبةَ نفسها التي يلعبها الغرب معها، فعملية فتح جبهة بولندا ستؤدي إلى ضرب أعداء روسيا ببعضهم البعض، وجميع السيناريوهات المحتملة هي في الحقيقة من مصلحة روسيا.
لبولندا وروسيا وبيلاروسيا مصلحة مباشرة في فتح هذه الجبهة، الخاسر بالدرجة الأولى أوكرانيا ودول البلطيق، وباقي الدول الأوروبية بالدرجة الثانية.
لبولندا مصلحة في استعادة مقاطعات غرب أوكرانيا التي خسرتها في الحرب العالمية الثانية، لذلك نلاحظ أن الرئيس بوتين قال:” هجوم بولندا على غرب أوكرانيا لا يهدّد الأمن القومي الروسي، بل يهدّد الأمن القومي الأوكراني”. و هذه إيماءة غير مباشرة بأن روسيا قد توافق على إعطاء هذه المقاطعات لبولندا.
لبيلاروسيا مصلحة مباشرة في الحصول على منفذ بحري على بحر البلطيق، وقد يكون ذلك بمحاذاة ممر سوفالكي بين ليتوانيا وبولندا، وهذا الممر يصل بين بيلاروسيا ومقاطعة كالينينغراد الروسية. لذلك لاحظنا حماساً بيلاروسياً واضحاً لاستقبال عناصر فاغنر، كما أن الرئيس البيلاروسي لوكاشنكو صرّح أمام الرئيس بوتين بأن: (الفاغنريون يرغبون بالذهاب في نزهة إلى وارسو وجيشوف، ففي قلوبهم حرقة مما شاهدوه في المعارك التي خاضوها في أوكرانيا). عندها نظر إليه الرئيس بوتين مبتسماً، وهذه إشارة إلى أنّ الموضوع تقريباً متّفق عليه. جيشوف – هي مدينة بولونية تقع في مقاطعة بودكارباتسكي جنوب شرقي بولندا بمحاذاة مقاطعة لفوف الأوكرانية، وعن طريق مطارها العسكري تمّ تزويد أوكرانيا بكل المساعدات العسكرية الناتوية.
في المناطق المحيطة ببولندا، والواقعة ضمن سيادة الدول الأخرى، يعيش الكثير من السكان من ذوي الأصول البولندية، إلا أنّ بولنديّي الداخل ينظرون إليهم بالكثير من الاحتقار، ويلقبونهم بـ (الزابوغوليين) بقصد التهكم والإهانة، لذلك فهم جاهزون نفسياً للقتال ضدّ بولنديي الداخل.
في غرب أوكرانيا يعيش الأوكرانيون من أتباع أيديولوجيا ستيبان بانديرا النازية، و هؤلاء قتلوا الروس و البولونديين و اليهود و البيلاروس و غيرهم من القوميات. كما أن بولندا قامت بتصفية أعداد كبيرة منهم في مقاطعة بودكارباتسكي البولوندية، لذلك هنالك ثأر تاريخي بينهم.
كما أنه يعيش في غرب أوكرانيا الكثير من الروس، الذين يقولون عن أنفسهم بأنهم (أوكرانيون) خوفاً من الأوكرانيين النازيين. لذلك نلاحظ أن الرئيس لوكاشنكو طلب من الرئيس بوتين أن يسمح بمساعدة الناس في غرب أوكرانيا إذا طلبوا المساعدة؛ و الحقيقة أن لوكاشنكو كان يقصد مساعدة الروس هناك.
إذا اشتعلت هذه المنطقة، فهناك سيناريوهان:
1- ستكون الحرب هناك عنصر ضغط شديد على أوروبا كلها، وقد تضطر أوروبا ومعها الولايات المتحدة إلى الرضوخ للشروط الروسية بإيجاد مخرج سلمي للأزمة، وهذا ما تريده روسيا، أي ضمانات أمنية في أوروبا؛ لأن إذكاء نار الصراع هناك قد يقود إلى حرب نووية ستكون مدمرة للجميع.
2-السيناريو الثاني، وهو الأخطر، أن يستمر التصعيد بدون أي آفاق للتسوية؛ فالحزب الحاكم في بولندا، حزب القانون والعدالة، هو حزب شعبوي، يتركز معظم أنصاره شرقي بولندا، وهو مُعادٍ لـ روسيا وأوروبا والولايات المتحدة. لذلك من الأرجح ألّا يصغي إلى دعوات السلام ويسير وفق رؤيته الخاصة، وخاصة أن هناك انتخابات برلمانية في أكتوبر القادم. وبولندا تدّعي أنّ لها حقوقاً تاريخية في كل أراضي الدول المجاورة بما في ذلك ألمانيا، لذلك قد تخوض بولندا حروباً طاحنة مع كل جيرانها، وهذا سيؤدي إلى إزهاق الكثير من الأرواح في القارة الأوروبية.
وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أنّ مؤسس حزب القانون والعدالة (ليخ كاتشينسكي)؛ الذي قُتل في تحطم طائرته في مقاطعة سمالينسك الروسية عام 2010، أثناء ذهاب الأخير مع زوجته، وكان وقتها رئيساً لبولندا، على رأس وفد كبير لإحياء ذكرى (مجزرة كاتين)، التي ارتكبها ستالين في عام 1940 بحق البولنديين.
يرأس الحزبَ الآن الأخُ التوءم له، ياروسلاف كاتشينسكي، وهو الآن نائب رئيس مجلس الوزراء البولندي…
تتهم السلطات البولندية روسيا بتدبير حادث تحطم الطائرة، لذلك فالأجواء مشحونة بين روسيا وبولندا، و لا تحتاج سوى شرارة حتى تشتعل المنطقة.
يتدرب الفاغنريون الآن في معسكر غوجا في مقاطعة غرودنو غرب بيلاروسيا، على مسافة 10-20 كيلومتراً من الحدود الليتوانية و البولونية؛ لذلك يكفي أن يقوم الفاغنريون باستفزاز ما عبر الحدود لكي تشتعل تلك المنطقة؛ فهي جاهزة للانفجار في أي لحظة بسبب تركيبتها الإثنية المعقدة كما أشرنا في الأعلى.
= = = = =
*الدكتور المهندس آصف ملحم – مدير مركز جي اس ام للأبحاث والدراسات.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً