الدكتور آصف ملحم*
يبدو أن الصدمات الكثيرة التي تلقتها، وتتلقاها، تركيا من الدول الغربية ساعدت في إنضاج وضع جيوسياسي تركي جديد؛ فهي تبني علاقاتها بوتيرة مطّردة مع مراكز القوى في شرق العالم، كما أنها تحاول الإحتفاظ بعلاقاتها التقليدية مع الدول الغربية. إلا أن دعوة الرئيس التركي مؤخراً القوات الأمريكية للإنسحاب من شرق الفرات في سورية تختزل ماهية الجو السياسي المشحون بين تركيا والغرب.
في هذا السياق، قد يكون من الجدير، لوضع القاريء الكريم في جو الموضوع الذي نريد بحثه، العودة قليلاً إلى بعض الأحداث غير البعيدة، وتحديداً إلى بداية اندلاع الأزمة السورية. في ذلك الوقت، كان الموقف التركي حيال الأزمة السورية متماهياً مع الموقف الغربي في الكثير من النقاط، إلا أن دوافع وأجندات كل طرف كانت مختلفة؛ ونتيجة لذلك وجدت تركيا نفسها أمام واقع جيوسياسي خطير، أصبح معه قيام الدولة الكردية قاب قوسين أو أدنى.
علاوة على ذلك، بعد اندلاع الأحداث الدامية في سورية، تصاعد الحديث في وسائل الإعلام الغربية و تركّز على موضوعين رئيسين:
الأول-المسألة الشركسية،
الثاني-حركة البان تركيسم.
الهدف من إعادة إحياء المسألة الشركسية واضح لكل ذي بصر وبصيرة، فهو إحياء لثأر عمره أكثر من 150 عاماً، وإذكاء لنيران حقد بين الروس والأتراك على خلفية أحداث تاريخية ميتة ومنسية.
أما حركة البان تركيسم Pan-Turkism فهي حركة تعود إلى أواسط القرن التاسع عشر، كانت تقودها بعض الأنتلجنسيا الأذربيجانية والعثمانية، وتدعو إلى التوحيد الثقافي والسياسي للشعوب التركية Turkic peoples. و الشعوب التركية هي تجمع إثني-لغوي ينتشر أعضاؤه في وسط وشرق وغرب وشمال آسيا وبعض أجزاء أوروبا وشمال أفريقيا. لقد حاولت الدول الغربية اللعب على هذا الوتر القومي بهدف دفع تركيا-أردوغان إلى مواجهة مع روسيا والصين، خاصة أن الشعوب التركية تتركز بشكل أساسي في المناطق القريبة الفاصلة بين روسيا والصين.
من نافلة القول، يعلمون في الغرب، وفي حلف الناتو تحديداً، أن المواجهة العسكرية المباشرة مع روسيا أو الصين غير ممكنة على الإطلاق، لذلك فهم سعوا و يسعون إلى إثارة هذا النوع من القلاقل و المشاكل لزعزعة إستقرار هذه الدول فحسب.
بعد الدخول الروسي المباشر على خط الأزمة السورية وتشكل صيغة آستانا، روسيا و إيران و تركيا، أبدت هذه الدول الثلاثة نجاعة كبيرة في وضع هذه الأزمة على الطريق الصحيح للحل، وأصبح واضحاً للجميع، وخصوصاً تركيا، أن دول المنطقة قادرة على أخذ زمام المبادرة في معالجة ملفاتها الساخنة؛ وهذا، في نظري، تطور كبير جداً وتحول جذري، ترك أثره على مجمل الوضع في منطقة الشرق الأوسط.
فضلاً عن ذلك، انكشف الوجه الحقيقي للغرب أمام تركيا، رسمياً وشعبياً؛ فحلف الناتو لم يقدم فوائد تذكر لتركيا منذ انضمامها إليه، بل إستغل تركيا واتخذها مطية لتمرير مشاريعه في منطقة الشرق الأوسط. واستطلاعات الرأي التي أُجريت في تركيا في عام 2017 تؤكد أن الشعب التركي بدأ ينظر لروسيا كدولة صديقة وإلى الولايات المتحدة كدولة خصم.
إضافةً إلى ما سبق، بدأت الكثير من الدول العربية بتطوير علاقاتها مع روسيا، فقام الملك سلمان بزيارة موسكو، وتتابعت بعدها الزيارات العربية على مختلف المستويات. والسيد لافروف، وزير الخارجية الروسي، في خطابه الأخير في الجامعة العربية وصف الموقف العربي حيال روسيا بالمتوازن.
في ضوء إضعاف الدور التركي في الدول الغربية، بدأت أنظار تركيا تتجه باتجاه مجموعة بريكس ومنظمة شنغهاي؛ فالكثير ما نسمع في الصحافة التركية بأن مجموعة بريكس ليست أقل تأثيراً ولا قوة من مجموعة السبعة. ومجموعة بريكس ومنظمة شنغهاي بدأتا بالتوسع؛ فإيران، و هي عضو منذ سنة تقريباً في منظمة شنغهاي، تقدمت بطلبٍ، مع الإرجنتين، للإنضمام إلى مجموعة بريكس، كما أبدت مصر والسعودية وتركيا أيضاً رغبتها بالانضمام إلى هذه المجموعة.
إستناداً إلى ما تقدم من قرائن و أسباب، فإن وضع تركيا كمركز جيوسياسي فاعل في حل القضايا الإقليمية يتعلق بشكل كبير بروسيا و إيران و الدول العربية و الهند و الصين أيضاً؛ والحقيقة أن روسيا هي اللاعب الأساسي في هذه المسألة! لذلك تبرز إلى السطح الأسئلة التالية:
هل ستكون هذه الحالة خياراً استراتيجياً لتركيا؟ أم أنها حالة مؤقتة مرتبطة بالظروف الراهنة؟ أم أنها حالة من التقلب والتذبذب، التي تصبغ السلوك السياسي التركي عادةً، والهدف هو تحقيق المكاسب في بعض الملفات السياسية والإقتصادية؟ أم أن هذا الوضع الجيوسياسي الجديد، متعدد المتجّهات والأبعاد والمستويات، يُعقّد آليات اتخاذ القرار في تركيا ويضعها أمام خيارات صعبة في بعض الأحيان؟!
قد يكون من الصعب إعطاء إجابات دقيقة على هذه المسائل وعن كيفية تطور الأحداث لاحقاً، إلا أننا نعتقد أن هذا التموضع الجديد في طريقه إلى التبلور؛ لأنه، في الحقيقة، لا يوجد خيارات أخرى أمام تركيا؛ فالجغرافيا لا تستشير أحداً، والمحيط الحيوي الحقيقي لتركيا هو الفضاء الأوراسي الكبير، الذي يمتد من قلب البلقان غرباً حتى بحر اليابان شرقاً، ومن المحيط المتجمد الشمالي إلى المحيط الهندي. وإثباتاً لرصانة هذا الإستنتاج سنسوق بعض القرائن والحجج:
1-تتحدث تركيا دائماً عن موضوع التكامل بين الشعوب التركية، لذلك نلاحظ أن أنقرة تحاول تطوير علاقاتها السياسية و الإقتصادية و الثقافية مع آسيا الوسطى، بهدف تقوية موقعها الجيوسياسي، وعملية التكامل هذه لن يُكتب لها النجاح مالم تسمح روسيا والصين والهند وباكستان وإيران بذلك.
2-أبدت تركيا رضاها عن الوضع في إقليم ناغورني-كاراباخ المتنازع عليه بين أذربيجان وأرمينا، والعمل جارٍ على تسوية الخلافات الأرمينية-الأذربيجانية والخلافات الأرمينية-التركية. و يعود الفضل الحقيقي إلى روسيا في وصول التسويات إلى هذا المستوى؛ وهذا يؤكد من جديد على أن العمل مع دول هذا الفضاء يعطي نتائج أفضل مقارنةً مع المقاربات الغربية التي سعت إلى إذكاء نار الفتنة بين أرمينيا وتركيا على خلفية أحداث تاريخية ماضية.
3-لعبت تركيا دوراً متوازناً حيال الحرب الروسية-الأوكرانية، وهذا موقف طبيعي ومنطقي؛ فتركيا تجاور روسيا وأوكرانيا وسيؤثر اتساع الصراع عليها مباشرةً. كما أن تركيا تتفهم جيداً دوافع موسكو في الهجوم على أوكرانيا؛ فتركيا نفسها عانت من النزعات العنصربة القومية والدينية كالإسلاموفوبيا والتركوفوبيا. إضافةً إلى ذلك، فإن التحريض على سباق تسلح وعسكرة أوروبا الشرقية ليس في مصلحة تركيا.
4-كان توافق الآراء والخطاب في قمة طهران الثلاثية الأخيرة، التي جمعت روسيا وإيران وتركيا، على الإشارة بإصبع الاتهام إلى الولايات المتحدة بأنها هي من يقوم بتذكية النزعة الإنفصالية عند الأكراد بدعمها لقوات سورية الديمقراطية (قسد) من أهم نتائج هذه القمة؛ ففي هذا إشارة غير مباشرة إلى أن دول المنطقة تسعى إلى الإستقرار وإلى تمتين أواصر الصداقة فيما بينها.
وحول هذه النقطة لا بد من الإشارة إلى بعض الحقائق، وخاصة فيما يتعلق بالعملية العسكرية التي كانت أنقرة تنوي القيام بها ضد (قسد)! فتركيا لم تقدم الحجج الكافية والدامغة حول جدوى هذه العملية العسكرية أمام روسيا وإيران في قمة طهران؛ ففي محيط المناطق التي تود مهاجمتها، أي: تل رفعت و منبج و عين العرب (كوباني) و عين عيسى، تتواجد القوات الروسية والسورية، وهي قادرة على ضمان أمن تلك المناطق. صحيح أنه يوجد هناك بعض العناصر الإنفصالية الكردية، التي تقوم ببعض الإستفزازات ضد تركيا عبر الحدود، ولكن هذه الإستفزازات ليست كبيرة إلى ذلك الحد الذي يستلزم إدخال الجيش التركي إلى تلك المناطق؛ لذلك يمكن الإتفاق مع روسيا وسورية بالطرق السلمية لحل هذا الموضوع.
من ناحية أخرى، تشير بعض المصادر إلى أن الولايات المتحدة أعطت الضوء الأخضر لتركيا بالقيام بهذه العملية العسكرية مقابل موافقتها على انضمام فنلندا والسويد إلى حلف الناتو، كما تعهدت الأخيرتان بدورهما على وقف دعمهما لحزب العمال الكردستاني. إلا أننا نميل إلى الإعتقاد بأن النخبة الحاكمة في تركيا تدرك جيداً بأنه لا قيمة لتعهدات هذه الدول بإيقاف دعمها للأكراد، كما أن موافقة تركيا على انضمام فنلندا والسويد إلى حلف الناتو هي موافقة شكلية، كانت ستتم عاجلاً أم آجلاً!
أما الإنطباع العام بأن تركيا تحاول فرض سيطرتها على المنطقة الممتدة من عفرين إلى رأس العين بهدف تمديد هذا النفوذ إلى القامشلي، لإنشاء ما يسمى المنطقة الآمنة، فهو يتناقض مع إلتزامات تركيا نفسها في صيغة آستانة بالحفاظ على وحدة الأراضي السورية. لذلك فإننا نعتقد أنه سيتم تشجيع أكراد سورية على الحوار والتقارب مع دمشق، كما أنه في أنقرة نفسها تزداد القناعة بضرورة الحوار مع دمشق، وهذا يأتي في السياق العام للسياسة الخارجية التركية؛ فتركيا تحاول تطوير علاقاتها مع العالم العربي، لذلك نلاحظ أنها بدأت بإضعاف علاقتها مع حركة الإخوان المسلمين!
هذا كله يؤكد من جديد أنه لا مناص لتركيا من الإتفاق مع جيرانها حول جميع القضايا الخلافية، لأن دول هذا الفضاء معنية بشكل مباشر بضمان الأمن والإستقرار فيه؛ أما الغرب فهو صاحب المشاريع والمبادرات المزعزعة لاستقرار هذه المنطقة.
5-يمثل الفضاء الأوراسي، إضافةً إلى أفريقيا وأمريكا اللاتينية، بالنسبة للغرب، المصدر الأساسي للموارد، كما أنه يمثل سوقاً لتصريف المنتجات الصناعية الغربية. وتسعى دول هذا الفضاء إلى تطوير اقتصاداتها وتحسين مستويات المعيشة لمواطنيها وتحقيق الإكتفاء الذاتي؛ لذلك سيساهم تعزيز التكامل والإندماج الإقتصاديين فيما بينها في بلوغ هذه الأهداف بسرعة أكبر.
في ضوء ما تقدم، فإننا نعتقد بأن تركيا ستقوم بإعادة صياغة شبكة علاقاتها الإقتصادية والسياسية بحيث يزداد تكاملها ضمن الفضاء الأوراسي الكبير، وهذا سيشكل انزياحاً تدريجياً عن المعسكر الغربي، وعملية الافتراق هذه لن تحدث بين ليلة وضحاها، بل ستستغرق بعض الوقت، حسب تطورات الأحداث؛ فالمعسكر الغربي بدأ يعاني من الوهن والضعف، والثقل السياسي والإقتصادي الحقيقي سينتقل إلى الشرق والجنوب، وهذا ما تؤكده أحداث العقد الأخير. والحقيقة أن هذه التحولات الكبرى ستصب في مصلحة شعوب منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص، وشعوب الفضاء الأوراسي وأفريقيا وأمريكا الجنوبية بشكل عام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور آصف ملحم – مدير مركز جي إس إم للأبحاث و الدراسات (موسكو).
*هذه المقالة نشرت أولاً في صحيفة رأي اليوم اللندنية بتاريخ 27 تموز 2022.
للإطلاع عليها انقر هنا.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً