بقلم الدكتور مصطفى يوسف اللداوي*
لم يتوقف الحديث عن “اليوم التالي” في قطاع غزة منذ الأيام الأولى للعدوان الإسرائيلي، وبات سؤالاً محيراً وتساؤلاً مربكاً، وكأنهم كانوا يعرفون ابتداءً أنه سيكون يوماً عصيباً ونهاراً عسيراً، وسيكون مكلفاً وباهض التكاليف، ولن يكون وحدَه قادراً على دفع فاتورتها، أو تحمّل أعبائها، والتعامل مع نتائجها وتداعياتها، وأن الإجابة عليه لن تكون سهلة أو ممكنة، ولن يستطيع عليها منفرداً أو يكون فيها حراً، وسيلزمه للإجابة عليه والنجاة منه الكثيرُ من الجهد والعمل، والتعاون والتآمر، والعديد من الأطراف والشركاء.
لعلهم أكثر من يعلم من خلال التجربة والخبرة، أن أرض غزة التي انسحبوا منها مبكراً، ولعنوها كثيراً خلال سني احتلالهم البغيض، وعانوا فيها وتكبدوا الكثير من الخسائر على أرضها، وعجزوا عن السيطرة عليها والقضاء على مقاومتها، وحاروا في مواجهة رجالها وتفكيك خلاياها، وتمنوا الخلاص منها والنجاة من جحيمها، وعملوا على الخروج منها والتخلي عنها، وتسليمها إلى غيرهم وإلقاء المسؤولية عنها إلى سواهم، أنها ستكون سبخةً جداً، وسيغرقون في أوحالها كثيراً، وأن رمالها ستكون رخوةً وستسوخ فيها أقدامهم، وستعجز عن الحركة عرباتهم وآلياتهم، وستحترق فيها دباباتهم وناقلاتهم المصفحة، وسيقنص فيها جنودهم، وستميد أرضها بهم، وستشتعل ناراً بهم وحولهم.
حول هذا السؤال المعضلة، والأزمة المحيّرة، سال حبرٌ كثيرٌ في بيانه، وجعجع الكثيرون في عرضه واستحسانه، وظنوا أن اليوم التالي لعدوانهم سيكون يوماً صحواً مشرقاً، شمسه ساطعة، وسماؤه زرقاء صافية، لا تلبّدها الغيوم، ولا تحجب الرؤيا فيه كثافةُ الضباب وكثرة السدوم، وكثُرت للإجابة عليه الأفكار والمشاريع والتصورات والرؤى، ولكن أياً منها لم ينضج، والكثير منها وصف بالعدمية وعدم المنطقية، ولا يبدو أن أحداً لديه القدرة أو الرغبة على التعاون معهم، أو الحلول مكانهم، والتخفيف عنهم.
تنطّع بعضهم فرأى أن إعادة احتلال قطاع غزة، وبسط السيطرة الأمنية والعسكرية عليه، وإعادة بناء المستوطنات، وتشجيع المستوطنين للإقامة فيه، إلى جانب تفعيل “الإدارة المدنية الإسرائيلية” القديمة، وتجديد دورها، واستعادة المهام القديمة التي كانت لها قبل العام 1993، ومنع نشوء أي سلطة فلسطينية محلية، وطنية أو عشائرية، وعدم السماح بعودة السلطة الفلسطينية، وإعادة تمكينها في غزة، هو الحل الأمثل والأجدى.
في حين رأى آخرون أنه يمكن بعد تقويض حكم حركة حماس، والقضاء على قدراتها العسكرية، وتفكيك بنيتها التنظيمية والمدنية، تسليم إدارة شؤون المواطنين الفلسطينيين في قطاع غزة إلى العشائر الفلسطينية، وبعض الشخصيات الاعتبارية المتعاونة معهم، في محاولةٍ لاستنساخ صورة عن “روابط القرى” التي فشلت في سبعينيات القرن الماضي، في ظل احتفاظ جيش الاحتلال بحرية العمل العسكري والأمني في قطاع غزة، ضد أي أهدافٍ يرى أنها تهدد أمنه، للحيلولة دون تمكن المقاومة الفلسطينية من إعادة بناء قدراتها، وترميم قوتها العسكرية، مخافة تكرار “طوفان الأقصى” من جديد.
وخلال زيارة وزير حرب العدو إلى واشنطن اقترح على الإدارة الأمريكية، المساعدة في تقسيم قطاع غزة إلى 24 منطقة أمنية، وخلق فقاعات وغيتوات مغلقة، يدخل إليها ويعيش فيها المدنيون الفلسطينيون، ممن لا علاقة لهم بحركة حماس، أو أيٍ من القوى الفلسطينية الأخرى، يتعهد خلالها جيش الاحتلال بالعمل على مدى سنتين في كل أنحاء قطاع غزة، خارج مناطق العزل والفقاعات الأمنية ضد حركة حماس، بينما تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بتشكيل تحالفٍ دولي وإقليمي للمساهمة في استقرار الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة، وضمان حياة لائقة ومناسبة للمواطنين الفلسطينيين.
أما الإدارة الأمريكية الشريك الرئيس في العدوان على قطاع غزة، فهي تحاول إنشاء وتشكيل تحالف عربي، عماده مصر والأردن ودولة الإمارات العربية والسعودية، يتحمل كامل المسؤولية عن قطاع غزة، ويدير شؤون سكانه، وينهض بهم ويعنى بشؤونهم، ويحسن من مستواهم المعيشي، ويلقى الدعم والإسناد المادي والسياسي من المجتمع الدولي، على أن تكون مهمته الأساس إلى جانب إدارة القطاع، نزع سلاح المقاومة، وتفكيك البنى العسكرية، ومنع أي محاولة لبناء القوة وتهديد الأمن الإسرائيلي.
رغم العنجهية الإسرائيلية التي رأيناها وما زلنا، على لسان نتنياهو وأقطاب حكومته اليمينية المتطرفة، وأعضاء مجلسه الحربي الفاشل، ووزير حربه المريض، إلا أن المستويات الإسرائيلية على اختلافها، كانت تدرك أنها في ورطة، وأن الخروج من قطاع غزة لن يكون سهلاً كما كان الدخول، وأنهم في حاجةٍ إلى مخرجٍ من الأزمة، وإلى حليفٍ يمدّ لهم يده، أو جيرانٍ يتعهدون بالتعاون معهم، ومساعدتهم في سد الفراغ والنهوض بالمهام بدلاً عنهم، ولهذا فقد ارتفعت أصواتٌ أخرى تنادي بالنجاة ولو بالهروب، وتسعى للسلامة ولو بالانسحاب الأحادي، وتفضل الصفقة المُرْضِية على الحلول المَرَضية.
لا يبدو أن أحداً، ممن يرى ضعف الكيان وعجزه، وانقسامه وتصدعه، يبدي استعداداً أو رغبةً للتعاون معهم، أو الحلول مكانهم، أو التضحية في سبيلهم، أو المغامرة باستقرار بلادهم ومصالح شعبهم من أجلهم، أو التورط في غزةَ كرمى لهم.
فهم جميعاً يعلمون أن الكيان الصهيوني يغرق، وأنه يخسر، ولا يستطيع البقاء أكثر، أو الصمود أمام المقاومة التي باتت تفاجئه وتقهره، ولا أمام الشعب الذي يصر على البقاء ويصارع من أجل الثبات، وأنه يستصرخ الآخرين للنجاة بنفسه، ويستغيث بهم للخروج من مأزقه، ويطالبهم بمد يد العون له، أمام الشعب ومقاومته، الذي يصر أن يكون اليوم التالي يوماً فلسطينياً خالصاً له ولا شريك معه، بصناعةٍ فلسطينية، وبأيدٍ ووجوهٍ وطنيةٍ فلسطينية، صادقةٍ مخلصةٍ، وحرةٍ مستقلةٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور مصطفى يوسف اللداوي – كاتب وباحث سياسي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً