بقلم الدكتور آصف ملحم*
دأبت الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية على خلق ما يمكن أن نسميه (الشرعية البديلة) أو (الشرعية الموازية)، لأنهم يعلمون علم اليقين أنه لا يمكن تحقيق أيّ خرق في أي ملف لا في مجلس الأمن الدولي ولا في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
الغريب في هذا النوع من الحفلات الدبلوماسية هو حرص الولايات المتحدة على إشراك أكبر عدد من الدول، من غرب الأرض وشرقها، وشمالها وجنوبها؛ والغرض هو إضفاء صبغة (الدولية) عليها، لكي يتسنّى لها القول: إنّ (المجتمع الدولي) أو (الأسرة الدولية) تؤيد هذا الخيار أو ذاك.
وهنا للتأمل والاستئناس، فقط، سأتطرق سريعاً إلى ماهية الحاضرين في هذه القمة حيث بلغ عدد المشاركين 92 دولة وهيئة:
-عن أوروبا وحدَها كان هناك 4 هيئات: مجلس أوروبا، المفوضية الأوروبية، المجلس الأوروبي، البرلمان الأوروبي.
-هناك عدد من الدول الصغيرة الحاضرة، التي لا يتجاوز تعداد سكانها بضعة آلاف، وهي: أندورا، ليختنشتاين، موناكو، بالاو، سان مارينو، ساو تومي وبرينسيب. فضلاً عن ذلك فإن كوسوفو ليست دولة مستقلة، ومع ذلك تمت دعوتها كدولة مستقلة.
-الفاتيكان والبرازيل كانا ممثلين بصفة مراقب.
-بلغ عدد الدول الغربية الحاضرة، أو المحسوبة على المعسكر الغربي 49 دولة، أي أكثر من النصف.
-عدد دول الجنوب الحاضرة، والتي تحاول الوقوف على الحياد في هذه الأزمة يساوي 38 دولة.
-غابت العديد من دول الجنوب الهامة عن هذه القمة، وعلى رأسها الصين.
من هذه البيانات يظهر بوضوح أنه قد تمّ تفصيل هذه القمة على المقاس الغربي تماماً، وأنّ وجود دول الجنوب فيها لإضفاء شكل من أشكال الشرعية السياسية ليس أكثر.
كان من المقرر أن يتم حشد التأييد السياسي لما سُمي خطة زيلينسكي للسلام، التي أعلن عنها الرئيس الأوكراني في 11 أكتوبر 2022. تتكون هذه الخطة من 10 بنود، وهي:
1-السلامة الإشعاعية والنووية.
2-الأمن الغذائي.
3-أمن الطاقة.
4-إطلاق سراح جميع الأسرى وإعادة المهجرين قسراً.
5-تنفيذ ميثاق الأمم المتحدة واستعادة السلامة الإقليمية لأوكرانيا والنظام العالمي.
6-انسحاب القوات الروسية ووقف الأعمال العدائية.
7-العدالة.
8-الحماية الفورية للبيئة.
9-منع التصعيد.
10-تأكيد انتهاء الحرب.
خطة السلام هذه تم وضعها بعد الهجومات المعاكسة المتكررة التي قامت بها أوكرانيا في أكثر من منطقة في صيف وخريف عام 2022؛ إذ بدا الأمر وكأن أوكرانيا قادرة على فرض شروطها على روسيا. ويبدو أن الدول الغربية وأوكرانيا عوّلوا بشكل كبير على الهجوم الأوكراني المضاد لكي تتمكن من التفاوض مع روسيا من موقع القوة. لذلك لاحظنا ترويجاً كثيفاً لهذه الخطة في العديد من المناسبات، وخاصة بعد طرح الصين لمبادرتها الشهيرة في الذكرى الأولى لبداية العملية العسكرية الخاصة.
لذلك، نحن نعتقد أن خطة زيلينسكي للسلام لم توضع أساساً لحل الأزمة، بل لتقول للعالم بأن أوكرانيا تريد السلام، وأن من يحاول تأجيج الصراع هو روسيا. وهذا في الواقع من الأشياء الغريبة في تاريخ إدارة الصراع، فروسيا لم تنكر بأنها هي من بدأت العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا.
وبغض النظر عن هذا وذاك، فإن خطة زيلينسكي للسلام بعيدة عن كونها خطة لإنهاء الصراع؛ فهي تتضمن مبادئ عامة، بعضها لا يرتبط بأوكرانيا أساساً. وكل بند من بنودها يحتاج إلى مناقشات وحوارات على مستوى الهيئات والمؤسسات الدولية بحضور معظم دول العالم. لذلك فالأرجح أنه تم وضع هذه الخطة للمناورة وليس أكثر منذ لك.
أدركت الدول الغربية أنه من الصعب تسويق هذه الخطة، لذلك نلاحظ أن الرئيس الأوكراني اختزلها إلى ثلاثة بنود فقط، وهي: السلامة الإشعاعية والنووية، الأمن الغذائي، إطلاق سراح جميع الأسرى وإعادة المهجرين قسراً. وهذه البنود تبدو بوضوح أنها فارغة من أي مضمون؛ فالأمن النووي لا شأن لأوكرانيا به، والأمن الغذائي لم يتأثر بانسحاب روسيا من مبادرة البحر الأسود للحبوب، كما أن محادثات تبادل الأسرى تجري بين الطرفين بوساطة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.
تؤكد العديد من المصادر أن زيلينسكي كان يأمل بأن يصدر البيان الختامي لهذه القمة بحيث يكون داعماً لهذه البنود الثلاثة من جهة، وأن تتم الإشارة إلى أنه يجب مناقشة باقي البنود لاحقاً من جهة ثانية، وأن يتم توجيه تهديد صريح لروسيا من قبل الدول القوية من جهة ثالثة.
يظهر من البيان الختامي لقمة سويسرا بأن الدول الغربية فشلت في حشد الدعم الدولي للموقف الأوكراني، فهذا البيان لم توقّعه إلا الدول الغربية. 6 دول من أعضاء مجموعة العشرين رفضت توقيع البيان الختامي، وهي: (البرازيل والمكسيك والسعودية وجنوب إفريقيا والهند وإندونيسيا). كما أن الإمارات العربية المتحدة والعراق والأردن وأرمينيا والبحرين وتايلاند وليبيا وكولومبيا والفاتيكان لم توافق على البيان الختامي. وهذا يعني أنه يوجد انقسام دولي حيال الأزمة الأوكرانية، ومن الصعب إقناع دول الجنوب بالرؤية الأوكرانية والغربية للأزمة.
بالإضافة إلى ما سبق، فلقد تطرّق الكثيرون، بما في ذلك الدول التي وقّعت على البيان الختامي، إلى ضرورة وجود روسيا في أي مفاوضات لحل الأزمة. لذلك نلاحظ أن بعض المسؤولين الغربيين بدأ يقول بأن هذه القمة هي قمة تحضيرية لقمة أخرى ستنعقد بحضور روسيا، وكأنهم استشعروا الفشل الذي منيت به المساعي والجهود الغربية.
علاوةً على ذلك، لم يتضمن البيان الختامي أية دعوات لخروج القوات الروسية إلى حدود 1991. بل تمّت الإشارة إلى ضرورة احترام ميثاق الأمم المتحدة، واحترام وحدة أراضي وسيادة الدول الأعضاء.
ختاماً، فإننا نعتقد أن هذه القمة هي فشل دبلوماسي جديد للمساعي الغربية. من هنا نفهم سبب غياب الرئيس الأمريكي عنها، لأن الإدارة الأمريكية أدركت مسبقاً أنه من الصعب إحداث خرق ما في هذا الشكل من المنتديات. لذلك فإننا نعتقد أن الحرب ستستمر، فهذه القمة سبقتها قمم مشابهة دون نتيجة، وكأن المراد من ذلك هو المناورة وكسب الوقت وإحداث أثر إعلامي-نفسي، الأمر الذي قد يساعد أوكرانيا على الاستمرار في الحرب لا أكثر، ولكن الوقت لا يسير في صالح أوكرانيا، ويبدو أن استسلامها بات قريباً!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور آصف ملحم – مدير مركز جي إس إم للأبحاث و الدراسات (موسكو).
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً