بقلم الدكتور مصطفى يوسف اللداوي*
لم تسلم الأمم المتحدة ولا أي مؤسسة دولية أو إقليمية، ولا أي شخصية أممية أو مستقلة، ولا أي هيئة قضائية أو قانونية، من ألسنة الإسرائيليين السليطة، ولا من انتقاداتهم الحادة، أو تعليقاتهم اللاذعة، ولا من عنصريتهم المقيتة وفوقيتهم المريضة، التي جاراهم فيها الأمريكيون وسبقوهم إليها، وجنّدوا أنفسهم معهم ضدها، وتعهدوا بالدفاع عنهم في حضورهم ونيابةً عنهم في غيابهم، وتوجيه اللوم والاتهام، وفرض العقوبات والحصار على كل من يتجرّأ برفع الصوت ضد “إسرائيل”، أو توجيه النقد إليها، أو التهديد بملاحقة قادتها ومحاكمة مسؤوليها، أو الشروع عملياً في إلقاء القبض على المتهمين بالتورط بتهم الإبادة الجماعية وارتكاب المجازر والجرائم الدولية.
لا يخفي الإسرائيليون صدمتهم من التغيير العام في المزاج الدولي، والتحول السياسي اللافت لدى شعوب وسياسات دول العالم ضدهم لصالح الفلسطينيين، فقد صدمهم تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح العضوية الكاملة لدولة فلسطين، ومن قبل ساءهم اعتراف إسبانيا ودول أوروبية أخرى بالدولة الفلسطينية، واستعدادها للمشاركة إلى جانب جنوب أفريقيا في الدعوة المرفوعة ضدهم أمام المحكمة الدولية، التي أعلنوا فيها عدم اعترافهم بها، وعدم احترامهم لقراراتها، وشنّوا عليها عملية تشويه واسعة، واتهموها بالانحياز وعدم المصداقية، وأنها أصبحت أداة بيد “السنوار” ضدهم، وأنها تحارب الديمقراطية وتؤيد “الداعشية”.
كذلك راعتهم محكمة الجنايات الدولية وأرعبتهم، واستفزتهم قراراتها وأغضبهم قضاتها، واستهزأوا بتوصيات المدعي العام للمحكمة، واتهموه بعدم الأهلية والمصداقية، وأنه ينحاز إلى الإرهاب ويتحدث باسم “الإرهابيين”، وهو بتوصياته يشجع على المزيد من العنف، ويقلل من فرص التوصل إلى تسويةٍ أو صفقةٍ لإعادة “المحتجَزين” الإسرائيلين، ودعوا إلى معاقبة القضاة وعزلهم، وإلى محاسبة المحكمة ورفض اختصاصها، والطعن في مصداقيتها والتشكيك في نزاهتها، وعدم تقديم الدعم لها إلى أن تتراجعَ عن قراراتها، وتعودَ عن توصياتها، وتحمل الفلسطينيين المسؤولية عن الحرب، وتعطي الإسرائيليين شرعية الدفاع عن أنفسهم وحماية مصالحهم.
أما الأمين العام للأمم المتحدة فهو لم يسلم منذ الأيام الأولى للعدوان من الانتقادات الإسرائيلية، واعتبروه بناءً على مواقفه معادياً لكيانهم، ومتحالفاً مع أعدائهم، وقد أدخل، بزعم رئيس حكومة كيانهم، نفسه لا إسرائيل في القائمة السوداء، وصنف نفسه لا كيانهم ضمن قائمة العار المعادية لهم، وطالبوه بالصمت وعدم المساهمة في الحرب ضدهم، وحذّروه من مغبّة الاستمرار ومساعديه في هذا المسار، وكانوا قد أبدوا غضبهم الشديد من زياراته المتكررة لمعبر رفح الحدودي، وتصريحاته حول مسؤولية إسرائيل الدولية تجاه الشعب الفلسطيني، واتهام حكومتها بأنها تحاصر الفلسطينيين، وتنتهك حقوقهم، وتجوّعهم وتعطّشهم وترتكب في حقهم جرائم ضد الإنسانية، يحاسب عليها القانون، وتخالف أنظمة الأمم المتحدة.
يعلم الإسرائيليون أن الأمين العام للأمم المتحدة هو أعلى شخصية أممية، وهو المسؤول عن تنفيذ واحترام بروتوكولات وأنظمة وقوانين المنظمة، إلا أنهم يتعمدون التعامل معه بقلة أدب، ويخاطبونه بغير لباقةٍ وبلا لياقةٍ، وقد خرقوا معه الأصول الدبلوماسية والأعراف الدولية، وأساؤوا إليه ونشروا قلة أدبهم على وسائل الإعلام وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، إمعاناً في إهانتهم له وتحقيراً لشأنه، وعبرةً لغيره ودرساً لسواه، وكان مندوبهم في الأمم المتحدة قد تعمّد مخاطبته بغير كياسةٍ وبلا لباقةٍ، وسجّل مكالماتِه معه ونشرها بقصد التشويه والإهانة، خلال المكالمة التي عرض له فيها عزم الأمم المتحدة إدراج كيانه ضمن القائمة السوداء، قائمة العار، التي تضم الدول القاتلة للأطفال.
لا يقتصر الموقف الإسرائيلي الغريب والشاذ عند الأمم المتحدة ومؤسساتها الدولية، بل تمادت أكثر عندما وصفت وكالة الأونروا بأنها وكالة إرهابية، وأنها تخدم مصالح “أعدائها”، ومهدت القوانين لإغلاق مقراتها وتعطيل أعمالها ومصادرة أموالها، وطرد مسؤوليها، ودعت دول العالم إلى الامتناع عن تمويلها وتجفيف منابعها.
وأعلنت حكومة الكيان شروعها في دراسة جدوى بقائها في مؤسسات الأمم المتحدة، التي لم تنس معرتها الأولى مع منظمة الأونيسكو، ورغبتها في دراسة سلبياتها وإيجابياتها، تمهيداً لاتخاذ قرارٍ بالانسحاب منها، وقد نسي الإسرائيليون أن هذه المؤسسة الأممية وهيئاتها، هي التي شرعت وجودهم، واعترفت بكيانهم، ومن قبل أعطتهم ما لا يستحقون من أرضنا ضمن قرار التقسيم الظالم لشعبنا.
وقد باشرت بإصدار عقوباتٍ ضد مسؤولين دوليين وموظفين أممين، وأخذت تضيّق على حاملي البطاقات الدولية، وبدأت الاستعدادات لإغلاق مقار مؤسساتٍ أممية وطرد العاملين فيها، والامتناع عن منح تأشيرات دخول أو السماح بدخول مسؤولين أمميين إلى كيانهم، بمن فيهم العاملين في الأمم المتحدة، والمؤسسات التي تعترف بها وتشارك في عضويتها، واعتبار مؤسساتهم مؤسسات إرهابية معادية، وأنها هيئات غير شرعية، ولا حصانة للعاملين فيها، ولا حماية لهم ولا لمقراتهم، في محاولةٍ يائسةٍ للضغط عليها، ودفعها للتراجع عن قرارتها، أو استبدال سياساتها “المناوئة” لهم، و”المؤيدة” للفلسطينيين ضدهم.
يبدو أن الكيان الصهيوني قد “شب عن الطوق”، وانقلب على “رعاته”، ورفع صوته فوق صوت “حماته”، وأخذ “يعضّ يد أسياده”، ويوزع شتائمه هنا وهناك، ويطلق العنان لأبواقه الإعلامية ولسان مسؤوليه والناطقين باسمه لتوجيه النقد والاتهام، وإصدار الأحكام وإطلاق المواقف، والتهديد والوعيد، ضد المؤسسات التي رعت نشأته، وهيأت السبل لتشريع وجوده، وأشرفت على صيانة كيانه، وانتصرت له في دعوى المحرقة “الهولوكوست”.
لكنه تنكّر لها وانقلب، وصبّ جام غضبه عليها، وكأنه قد أَمِنَ العقوبة فلا يخاف، واطمأن إلى أن النظام الدولي “مخصيٌ” فلا أسنان ولا مخالب له، ولا خوف منه أو قلق من جانبه، وأن قطبه الأكبر منحازٌ إليه متحالفٌ معه، يدافع عنه ولا يتخلى عن حمايته، ولا يتركه وحيداً، ولا يسمح لأي جهةٍ بتهديده وترويعه، وتعريض وجوده للزوال وأمنه للخطر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور مصطفى يوسف اللداوي – كاتب وباحث سياسي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً