الدكتور آصف ملحم*
عندما تندلع الحرب، فعلاوة على آثارها الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والسياسية المباشرة، تطفو إلى السطح مجموعة من الأسئلة الهامة على المستويين القانوني والأخلاقي معاً. وبما أن لأتباع الأديان مرجعياتهم الأخلاقية والقانونية المختلفة، التي قد تتوافق أو تتناقض مع مرجعيات الدول التي ينتمون إليه، يصبح البت في هذه القضية والتذكير ببعض البديهيات ضرورة ملحة للغاية.
سأركّز في مقالتي هذه على المسلمين خاصةً، وفي مقالات لاحقة سنتناول الموضوع نفسه عند باقي المجموعات الإثنية-الدينية؛ فالحرب الروسية-الأوكرانية أحدثت انقساماً عالمياً بين الشرق والغرب على جميع المستويات.
لا مندوحة لنا، لدراسة هذا الموضوع، من تناول مفهوم الجهاد في الإسلام والإضاءة على بعض جوانبه، فلقد اختلفت زوايا نظر فقهاء المسلمين إلى معنى تأويله، وتداخلت الأهداف السياسية بالأهداف الدينية في الكثير من الحالات، إلى درجة أصبح فيها الجهاد إرهاباً في حالات معينة والإرهاب جهاداً في حالات أخرى تبعاً للمصالح السياسية!
ينقسم الجهاد الشرعي عند المسلمين بمعناه القتالي إلى: جهاد الطلب، وجهاد الدفع. وفي كلتا الحالتين يجب أن تتوفر في الجهاد الشرعي الشروط التالية:
1-أن يكون في سبيل الله ومرضاته وخدمة للإسلام وإعلاءً لراية التوحيد؛
2-أن تكون رايته معلومة وهدفه واضح؛
3-أن يتم بإذن ولي الأمر أو الحاكم في تلك الديار؛
4-أن يتمتع المسلمون بالقوة الكافية لتحقيق النصر؛
5-أن لا تكون المفاسد الناجمة عنه أكبر من مفاسد تركه.
من نافلة القول، الإسلام كمنظومة عقائدية متكاملة جاء لإعلاء كلمة الله و رفع راية التوحيد، وهذا هو الهدف الحقيقي لرسالة الإسلام. وفقاً لهذا المعنى لا يختلف الجهاد القتالي في الإسلام عن غيره من أنواع القتال أو الحروب؛ إذ أن الجميع يقاتل لأهداف إيديولوجية معينة، إلا أن الإسلام خص هذا النوع من القتال بمصطلح خاص، سماه الجهاد، نظراً لخصوصية أهدافه المبينة في الشرط الأول؛ إذ لا يخفى على العقلاء أن الشروط الأربعة الباقية هي شروط ضرورية في أي حرب تقريباً.
بناءً على ذلك، نصل إلى نتيجة واضحة لا لبس فيها، وهي: ليس كل قتال جهاد، كما أن ادّعاء الجهاد من قبل فرد أو جماعة معينة لا يعني بالضرورة صدقهم في هذه الدعوى.
سنحاول إسقاط المفاهيم السابقة على الحرب الروسية-الأوكرانية؛ إذ تسابقت العديد من الأقلام المأجورة في الأسابيع الماضية على إضفاء صفة الجهاد على بعض المجموعات المشاركة في هذه الحرب، وإسقاط هذه الصفة عن بعضها الآخر، والهدف هو الاستثمار السياسي في هذه الحرب، وهذا واضح لكل ذي لب.
سنبدأ بالمقاتلين الشيشانيين، إذ يحاول البعض صبغ مشاركتهم في هذه الحرب بصبغة دينية إسلامية، متناسين أن جمهورية الشيشان، وغيرها من الجمهوريات الإسلامية الأخرى كداغستان وتترستان وتشيركيسيا، هي جزء من الاتحاد الروسي. فالجندي الشيشاني، أو التتري أو البشكيري أو الشركسي، يحارب في جيش بلاده الوطني، وهذا واجبه تجاه دولته عندما تستدعي الحاجة. وعندما يرفع الجنود الشيشانيون الشعارات الإسلامية فهذا لا يجب تفسيره بشكل من الأشكال في غير سياقه المنطقي والموضوعي؛ لأنه تأكيد على المبادئ التي قامت العملية العسكرية الروسية Z، و المتمثلة في اجتثاث النازية من أوكرانيا. فهل هناك مسلم واحد، من أي تيار أو فرقة كان، يمكنه القول بأن الإسلام يفرق بين الناس على أساس انتمائهم العرقي؟! ألم يقل النبي محمد (ص): لا فرق بين عربي ولا أعجمي ولا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى؟! وهذا تأكيد على ما جاء به القرآن نفسه في الآية 13 من سورة الحجرات: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير).
على الضفة الأخرى من العالم، وفي الدول الغربية تحديداً، برزت بعض الأصوات الشيشانية، التي تحاول الانتقام من روسيا عبر الحرب في أوكرانيا رافعة الشعارات الدينية الإسلامية أو الشعارات القومية-العرقية. ولا يخفى على كل ذي بصر وبصيرة الدوافع الحقيقية لهذا النشاط السياسي؛ فهذه الشخصيات تحاول تحقيق مكاسب شخصية ومالية فحسب!
في الأسابيع الأخيرة، برز اسم الزعيم الشيشاني السابق، المنفي في لندن منذ العام 2003، أحمد زاكاييف، الذي عبّر على عدة قنوات أوكرانية و أوروبية، منها القناة channel 24 و 1+1 و NEP Prague، إضافة إلى قناته الرسمية على اليوتوب، عن استعداده للحرب إلى جانب الرئيس الأوكراني زيلينسكي في وجه روسيا، كما أنه قام بعدة تظاهرات مؤيدة لأوكرانيا في بروكسل. إضافة إلى ذلك، طالب زاكاييف الرئيس زيلينسكي بتوقيع اتفاقية تعاون عسكري بين أوكرانيا و جمهورية إتشكيريا الشيشانية* لكي يكون المقاتل الشيشاني محمياً بمعاهدة جنيف، كما أنه طالب دول الاتحاد الأوروبي استصدار قانون يمنع محاكمة المقاتلين الشيشانيين الذين يحاربون في أوكرانيا، على غرار ما فعلت الدنمارك وجمهورية التشيك وليتوانيا.
إضافة إلى زاكاييف، برز اسم المحامي و الناشط السياسي الشيشاني، أصلان أرتسوييف، المقيم في ألمانيا، والذي يرأس مركز إتشكيريا لحقوق الإنسان. فلقد أعلن أرتسوييف في قناة مركزه على اليوتوب تأييده للرئيس الأوكراني زيلينسكي، كما أنه حرّض المواطنين الشيشانيين للمشاركة مع القوات الأوكرانية في مواجهة الجيش الروسي.
في الحقيقة، تستخدم الدول الغربية الشعب الشيشاني المسلم لتحقيق مصالحها السياسية، وهي تقوم بذلك عبر مجموعة من المنظمات غير الحكومية. وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أن الدول الأوروبية لا تستثمر فقط الورقة الشيشانية، بل تحاول تمويل بعض المتطرفين من مسلمي البوسنة والمسلمين المنحدرين من قوميات أخرى. على هذه الخلفية، يبرز النفاق الغربي بوضوح تام في تعاملهم مع الجالية المسلمة هناك؛ فمن جهة يؤكد المسؤولون الغربيون على كل منبر على علمانية دولهم، ومن جهة أخرى لا مانع عندهم من استثمار الورقة الإسلامية ضد روسيا! وهم يفعلون ذلك دون أخذ التهديدات الأمنية أو العواقب التي قد تواجه المسلمين هناك بعين الاعتبار.
علاوة على ذلك، يبرز نفاق الدول الغربية أيضاً في دفاعهم المستميت عن اعتبار الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول محمد (ص) أنها شكل من أشكال حرية التعبير والابداع، في الوقت الذي وقف الرئيس بوتين شخصياً ينافح عن النبي محمد (ص) رافضاً وجود علاقة بين الابداع وحرية التعبير وإهانة الرموز الدينية للمجموعة الدينية الأخرى.
من ناحية أخرى، فإن انقسام المسلمين، الناجم عن مشاركة مسلمي أوروبا في الحرب الدائرة في أوكرانيا، سيضعهم أمام استحقاقات قانونية صعبة، كما أنهم قد يتعرضون لعواقب سلبية، سواء في أوروبا أو في روسيا، منها على سبيل المثال لا الحصر:
-قد يتعرض بعض المسلمين للملاحقة القانونية في دول الاتحاد الأوروبي. كما أنه ستواجهم صعوبات في زيارة الدول التي انحدروا منها، وقد يتم طردهم منها، وهذا ما حصل مع الإرهابيين الذي جاؤوا إلى سورية من دول آسيا الوسطى في العقد الأخير.
-لن يتمكن المسلمون المنحدرون من القفقاز، والذين شاركوا في الحرب ضد روسيا، من زيارة ذويهم في روسيا. إضافة إلى إمكانية تعرض ذوي هؤلاء إلى المضايقات على خلفية انقسام المجتمع القفقازي المسلم حيال هذا الموضوع.
أما فيما يتعلق بالمسلمين غير المنحدرين من شمال القفقاز، الذين يرغبون بالمشاركة في هذه الحرب، فلقد حاولت العديد من وسائل الإعلام الغربية الترويج للمصطلح القرآني (الطاغوت)، في إشارة إلى الطغاة الذين حاربوا الأنبياء والرسل، والهدف هو دغدغة مشاعر المسلمين في العالم و استثارتهم ضد سياسة الرئيس فلاديمير بوتين. هنا نريد أن نطرح عليهم بعض الأسئلة البسيطة، حتى لا يتم استخدام هذا المصطلح في غير سياقه:
من هم طواغيت العصر؛ النخب الحاكمة في دول الناتو أم النخب الحاكمة في روسيا ومن يدور في فلكها؟
ألم تقم دول الناتو بإثارة الحروب والقلاقل الأمنية في كل دول العالم تقريباً، وقتلت وشرّدت الملايين في كل من: كوريا، غواتيمالا، أندونيسيا، كوبا، الكونغو، اللاوس، فيتنام، كمبوديا، غريناده، فلسطين، لبنان، سورية، ليبيا، السلفادور، نيكاراغوا، إيران، باناما، العراق، الكويت، الصومال، البوسنه، السودان، أفغانستان، يوغسلافيا، اليمن، باكستان؟
ألم تقم الدول الغربية بنهب خيرات دول آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية في حقبة الاستعمار الحديث؟
ألم يكن الاتحاد السوفيتي المساعد الأكبر لكل الدول الآسيوية والأفريقية والأمريكية اللاتينية للتحرر من الاستعمار الحديث؟
ألا تخرق الدول الغربية القانون الدولي ليل نهار لتحقيق مصالحها السياسية؟
أعتقد أن الأجوبة واضحة لكل ذي بصر وبصيرة، لا بل إن التلاميذ في المدرسة يعرفون الأجوبة! فالطواغيت الحقيقيون هم النخب الحاكمة في الدول الغربية، التي عيّنت دمى لها في كييف، زيلينسكي والدائرة المقربة منه، لكي تنفذ سياساتها وتحقق أطماعها. وبالتالي فالقتال مع قوات الرئيس الأوكراني هو قتال مع الطواغيت ودعم لها، وهذا يحرمه الإسلام بجميع ملله ونحله!
أختم؛ لقد أعلنت روسيا عن عمليتها العسكرية في أوكرانيا لاجتثاث النازية والتطرف من هذه البلاد؛ فهذه النزعات العنصرية لا تشكل خطراً على روسيا فحسب بل على كل دول العالم. لذلك، على كل أصحاب الضمائر في العالم دعم روسيا في حربها هذه؛ فمحاربة النازية والعنصرية والتمييز العنصري هي حرب مقدسة!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور آصف ملحم – مدير مركز جي إس إم للأبحاث و الدراسات (موسكو).
*جمهورية إتشكيريا الشيشانية: وهي كيان غير معترف به، تشكل بعد انهيار الاتحاد السوفيتي على الأراضي الشيشانية-الإنغوشيتية. من تاريخ 9 كانون الثاني 1993 أصبحت هذه الأراضي تشكل جمهورية الشيشان، وهي جزء من الاتحاد الروسي.
*هذه المقالة نشرت أولاً في صحيفة رأي اليوم اللندنية بتاريخ 9 نيسان 2022.
للإطلاع عليها انقر هنا.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً