بقلم الدكتور مصطفى يوسف اللداوي*
إنها واحدة من أصعب الليالي وأشدّها قسوةً على شعبنا الفلسطيني، وكل لياليه السابقة كانت قاسية ومضنية، ومؤلمة وموجعة على مساحة القطاع كله، شماله وجنوبه، لم تتوقف خلالها آلات القتل الإسرائيلية عن ارتكاب المزيد من المجازر وعمليات الإبادة الجماعية المقصودة والمباشرة، للأسر والعائلات والمناطق والأحياء، في حصادٍ مستمرٍ لأرواح المواطنين المدنيين، المحتمين في بيوتهم، والمجتمعين مع بعضهم، واللاجئين إلى المساجد والمدارس والمقار الدولية، والباحثين عن الأمان في المستشفيات والمراكز الصحية، والمحتمين تحت راية اللجنة الدولية للصليب الأحمر والمنظمات الأممية المختلفة.
لكن الليلة السادسة والثلاثين للعدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة، تبدو الأعنف والأشد قسوةً، والأطول قصفاً والأكثر هولاً، وقد ظنّ الفلسطينيون في قطاع غزة – بعد الأحاديث المتواترة عن الهدنة وقرب التوصل إلى اتفاقٍ أوّلي لوقف القتال لفتراتٍ محدودةٍ، وفتح معبر رفح، والسماح بدخول بعض الشاحنات الإغاثية، بعد فحصها والتأكد من محتوياتها وخلوّها من أي موادٍ ممنوعة -؛ أنّ العالم الحر والدول المتحضرة، التي تدّعي المدنيّة وتنادي بحقوق الإنسان، وتدعو إلى احترام القوانين الدولية والتزام الأعراف الإنسانية، لن تسمح للحكومة الإسرائيلية بتنفيذ تهديداتها، وقصف وتدمير المؤسسات الصحية والإغاثية، وتجمّعات المواطنين، والمدارس ومراكز الإيواء العامة.
إنها ليلة قصف المستشفيات وتدمير المراكز الصحية في الشمال والجنوب على السواء، وإن ادّعى العدو كذباً وخداعاً، أن الجنوب آمن لا قصف يطاله، وأن الشمال مستهدفٌ وعلى سكانه مغادرته، إلا أنه كان يكذب وما زال، إذ قصف( مستشفى ناصر) في خان يونس، و(مستشفى عبد العزيز الرنتيسي) للأطفال، و(مستشفى النصر والعيون، والاندونيسي والتركي وكمال عدوان والقدس)، وبقية المستشفيات البالغ عددها 35 مستشفىً ومركزاً صحياً، بعد أن استهدف طواقمها الطبية، وهيئاتها العاملة، وسيارتها المتنقلة، وأجهزتها الطبية، وكل أدوات عملها في المستشفيات وخارجها، في سياسةٍ واضحةٍ ومباشرة، أعلن عنها وعمد إلى تنفيذها، تقضي بتدمير كل مقومات الحياة في قطاع غزة، والضغط على سكانه قتلاً وحصاراً وتجويعاً وتعطيشاً وحرماناً من الكهرباء ووسائل الاتصال، أملاً في انهياره واستسلامه، وتخلّيه عن المقاومة وانحيازه إليه.
لكن يبقى مجمع الشفاء الطبي الكبير، الذي بني في العام 1946، وأصبح المجمع الطبي الأكبر في القطاع، مساحةً وخدمةً وتخصصاتٍ وأسرةً وعاملين، وصمد واتّسع وتطور خلال أكثر من ثمانية عقودٍ، حتى أصبح عمدة المستشفيات الفلسطينية وكبيرها، وفي العدوان الإسرائيلي الحالي أصبح منبر الإعلام ومنتدى الصحافة الدولية والمحلية، والمركز الأول للجوء الفلسطينيين، الذين يظنون أنه المكان الأكثر أمناً، والمقر الطبي المحمي دولياً، والمصان بموجب القوانين من أعمال الحروب والقتال، والقصف والتدمير، إلا أنه لم يكن كذلك ليلة أمس وما زال، فلم يحترم العدو صفته ولا تصنيفه، ولم يلتزم بالقوانين الدولية وأعراف القتال وبروتوكولات الحروب والعمليات الحربية.
فقد هاجمت -طوال الليل وحتى ساعات الصباح الأولى التي أكتب فيها مقالي هذا- طائرات الاحتلال الإسرائيلية، وقصفت بوارجه البحرية ودباباته المنتشرة في أرجاء شمال قطاع غزة، مجمّع الشفاء الطبي، ودكّت مداخله وأطرافه وباحاتِه، وأقسامه وعياداته، والشوارع المؤدية إليه، وتسبّبت في استشهاد المئات من الجرحى والمرضى والمصابين والعاملين واللاجئين وغيرهم، وفي الوقت الذي لا يستطيع العاملون فيه الوصول إلى الجثث المنتشرة والأشلاء الممزقة والمتناثرة في أرجاء المستشفى ومرافقها، فقد عمد بعض من بقي فيها إلى التجهيز لدفن الجثث كلها في “حفرة” واحدةٍ، دون تمييزهم ومعرفة هوياتهم وتسجيل أسمائهم.
إنها ليلة تنفيذ الإعدام -أمام سمع العالم وبصره – بحقّ آلاف المصابين والجرحى والمرضى والمواليد الخدّج، والأطباء والممرضين والعاملين في كل المستشفيات الفلسطينية الباقية في شمال قطاع غزة، التي حرمت خلال أيام العدوان وما زالت من الكهرباء والماء والدواء والغذاء، شأنها شأن القطاع كله، مما أدى إلى خروج أكثرها عن الخدمة، وتعذّر تقديمها الخدمات الطبية لأبسط المصابين والجرحى، فضلاً عن ذوي الإصابات الخطرة والحرجة، مما سيشكّل أكبر كارثة إنسانية يشهدها القطاع.
لكن العالم أصمُّ وأبكم، وعاجزٌ وقعيدٌ، لا يقوى على الفعل والحراك، ولا على الشجب والاستنكار، ويقف مسلوب الإرادة أمام الكيان القاتل، المدعوم من الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوروبية، وقد كان بإمكانه عمل الكثير، وممارسة الضغط الكافي، وفرض إرادته القانونية والإنسانية، ولكن يبدو أنه جزءٌ من المؤامرة، وشريكٌ في العدوان، ومسؤولٌ عن الجريمة، التي لن تفضي إلى تحقيق أهدافهم التي تعاهدوا عليها وتحالفوا من أجلها، أما المقاومة التي تشتبك مع جيش الاحتلال وتمنع تقدّمه، وتدمّر عرباته ودباباته، وتقتل جنوده وضباطه، فهي وحدَها التي تتكفّل بصدّ العدوان وردّه، وهي على ذلك بعون الله قادرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور مصطفى يوسف اللداوي – كاتب وباحث سياسي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً