بقلم الدكتور مصطفى يوسف اللداوي*
أجزم أنّ عشرات آلاف الفلسطينيين من سكان قطاع غزة، ومنهم أنا وزوجتي وبناتي، الذين يعيشون في المنافي والشتات، وفي دول الخليج العربية والسعودية، وفي مصر ودول أوروبا ودول القارتين الأمريكيتين، وفي مخيمات اللجوء في سوريا والأردن ولبنان، وفي تركيا التي يقيم فيها آلاف الغزيين الذين لجأوا إليها في السنوات الأخيرة، طلباً للرزق وسعياً للعمل أو محاولةً للهجرة، وجُل هؤلاء لهم أهلٌ وعوائلُ وأسرٌ في قطاع غزة، وبعضهم يعيش في الشتات وحده طلباً للعلم أو سعياً للرزق، تاركاً أولاده وحدهم في غزة، أو في كنف أسرهم وعائلاتهم.
أجزم أنهم جميعاً لم يناموا ليلة السبت 28 أكتوبر، ولم تغمض عيونهم، ولم ترتح أجسادهم، ولم تهدأ نفوسهم، ولم يهنأوا بطعامٍ أو يستمتعوا بشرابٍ، وقد قضوا ساعات الليل الطويلة حتى بزوغ الفجر، أمام شاشات الفضائيات العربية والأجنبية، التي تتابع مجريات العدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة، وتسلط الضوء على جرائمه، وتظهر غاراته الوحشية وقصفه المستمر المنافي لكل قواعد الحرب، بعد أن توقفت مختلف وسائل التواصل مع أهلهم وعائلاتهم، حيث قام العدو الإسرائيلي بقطع الاتصالات السلكية وتعطيل الشبكات الخلوية، ووقف خدمات الانترنت كافة ، ولم يعد ممكناً التواصل مع أحدٍ منهم أو الاطمئنان عليهم.
لم يكن هذا حالهم ليلة السبت فقط، وإنما هذه هي حالتهم العامة منذ اليوم الأول للعدوان، وإن كانت ليلة السبت هي الأصعب والأشد وطأةً عليهم، بسبب انقطاع التواصل بينهم وبين أهلهم في غزة، وعجزهم التام عن معرفة ما يجري فيها، وتساؤلاتهم الكثيرة دون إجاباتٍ شافيةٍ، أين يقصف العدو ومن يستهدف، وهل سقط شهداء، ومن هم، وكم عددهم، ومن أي عائلةٍ هم، وهل تم استخراج جميع من كانوا في المبنى الذي تعرض للقصف، أم ما زال هناك أحدٌ مفقودٌ أو تحت الركام، خاصةً أنهم كانوا يشاهدون صور القصف المهول والمرعب الذي تنقله بعض الشاشات الفضائية.
قبل ليلة السبت الدامية، وعلى مدى ثلاثة أسابيع متوالية، كان الغزيون في الشتات يتابعون بقلقٍ، ويتصلون بحذرٍ، ويتجنبون الاتصالات المباشرة، ويعمدون إلى برامج المراسلة، ويتجنبون ذكر الأسماء أياً كانت، أو السؤال عن أشخاصٍ بعينهم، مخافة أن ينتبه إليهم العدو، ويحدد مكانهم ويقصفهم، علماً أن جيشه يقصف كل مكانٍ، ولا يميز بين فلسطينيٍ وآخر، ولا يعنيه من يقتل، طفلاً أو امرأة، رجلاً أو شيخاً عجوزاً طاعناً في السن أو مريضاً.
ولعلهم على حقٍ في هذا، لحسٍ أمنيٍ عندهم، أو لتجربةٍ وخبرةٍ ومعرفةٍ بوحدات “السايبر” الإسرائيلية، أو الوحدة 8200 الاستخبارية التي يعمل فيها آلاف الطلاب والمتطوعون الإسرائيليون، الذين يراقبون الاتصالات الهاتفية، ويتابعون وسائل التواصل الاجتماعي، ويحللون كل معلومةٍ أو خبرٍ فيها، وينقلونها إلى جهات الاختصاص الاستخبارية، وغالباً ما ينتحل العاملون فيها، ممن يتقنون اللغة العربية ولهجاتها، أسماءً فلسطينية وأخرى عربية، ويتحدثون أو يتراسلون مع غيرهم من جنسياتٍ فلسطينية وعربية مختلفة.
يوصي الفلسطينيون في قطاع غزة أبناءهم في الخارج أن ينتبهوا على أنفسهم، وألا يقلقوا عليهم ؛ فهم يطمئنونهم أنهم بخير ولا خطر عليهم، وكأنهم ليسوا تحت الحصار، ولا يواجهون عدواً يقصفهم ليل نهار، ولا يقتلون يومياً بالمئات، ولا تسقط عليهم البنايات، ولا تنهار فوق رؤوسهم سقوف منازلهم والجدران، ولا تتزايد أعداد جرحاهم بالآلاف، ولا يجدون مكاناً لشهدائهم تحت الأرض يدفنون فيه، ولا لجرحاهم مستشفياتٍ وأسرّةً فيها يعالجون ويتلقون الرعاية الطبية المناسبة.
الحقيقة أن حياة الغزيين في الخارج قد توقفت عند أهلهم في غزة التي سكنت جوارحهم وتمكنت، وارتبطت أرواحهم بها وتشبثت، ولم يعد في استطاعتهم القيام بأي عملٍ يشغلهم عنها، وكثيرٌ منهم توترت أعصابهم، واضطربت حياتهم، وانتابتهم نوباتٌ من التشنج والغضب، وفقدوا شهية الطعام والرغبة في العمل، وعافوا البسمة وحرموا على أنفسهم الضحك، وآثروا الصمت والانكفاء، وانعزلوا في بيوتهم مع أسرهم وعائلاتهم، ورفضوا تقبل سريان الحياة بصورةٍ طبيعيةٍ في البلاد التي يقيمون فيها، فغزة بالنسبة لهم هي القلب والوتين، وهي الشريان والحياة، وهي الروح والأمل، وهي البيت والوطن.
= = = = =
*الدكتور مصطفى يوسف اللداوي – كاتب وباحث سياسي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً