بقلم الدكتور مصطفى يوسف اللداوي*
يدرك ملايين المستوطنين الإسرائيليين السبعة الذين يغتصبون الأرض الفلسطينية ويستوطنونها، ويسكنون ديار أهلها الذين طردوهم منها وأبعدوهم عنها، ويسلبون خيراتها وينعمون فيها، ومعهم الإدارة الأمريكية وحلفاء كيانهم في كل مكانٍ، أنّ الأزمة التي يواجهونها أزمةٌ غير مسبوقة، وأنها الأخطر منذ نشأ كيانهم والأعمق أثراً على مكونات شعبهم، وأنها تشكل تهديداً حقيقياً مباشراً لوجودهم، فهي تمزّق وحدتهم، وتشتّت جمعهم، وتؤسس لشقاقٍ كبيرٍ بينهم، وتهدد شكل دولتهم، وتغيّر هويّة كيانهم، وتعصف بأسس الديمقراطية التي يدّعون أنها التي تميزهم عن دول المنطقة، وكثيرٌ منهم يظن أنها بداية النهاية، وأنه لن تكون لليهود بعدها دولة ولا كيان، ولن يجتمعوا في مكان أو يلتقوا في أرضٍ.
لا يخفي الإسرائيليون جميعاً مخاوفهم التي أصبحت تتعاظم يوماً بعد آخر، وتزداد مع الأيام مظاهرها وتتفاقم صورها، ولا يستطيع أحدٌ أن يبدد هواجسهم، أو يهدّئ من روعهم ويطمئن قلوبهم، والشواهد على انهيارهم النفسي وتوترهم العصبي كثيرة، وتشهد على ذلك عياداتهم الصحيّة ومصحّاتهم النفسية، ولعل حوادث الانتحار والاكتئاب النفسي التي ترصدها مؤسساتهم الخاصة تشير بما لا يدع مجالاً للشك إلى عمق الأزمة التي يعيشون، وسوداوية المشهد الذي يرتقبون.
كما لا يوجد بينهم رجلٌ رشيد عاقلٌ يقودهم ويجمع كلمتهم، ويرشدهم ويوحّد صفهم، فالخلافات دبّت بينهم، والصراعات نشأت فيما بينهم، والحلول استعصت عليهم، ولم تعد تجدي صرخات رئيس كيانهم يتسحاق هيرتزوج، الذي بُح صوته وهو يناديهم، وبذل أقصى الجهود وهو يحاول الجمع بينهم، والوصول معهم إلى حلٍ وسطٍ ينقذهم وَكيانَهم، إلا أن الشّقاق بينهم يزداد، وهو ما فتئ ينصحهم ويحذرهم من مغبّة الانزلاق نحو ما هو أخطر، إلا أن أصواته ذهبت أدراج الرياح ولم يصغِ إليه أحد، وباءت جهوده بالفشل ولم يتبعه أحد.
ولعلّ الاحصائياتِ الرسميةَ الصادرة عن مؤسسات الكيان، واستطلاعات الرأي المختلفة التي تجريها وسائلُ إعلامية وهيئات مختصة مستقلة، تؤكد بالأرقام والبيانات أن الكيان الصهيوني يواجه تحدياً من نوعٍ آخر، لا يشبه التحديات التقليدية التي كان ولا زال يواجهها من وراء الحدود، أو تلك الناشئة عن العمليات العسكرية والاضطرابات الأمنية التي تقف وراءها قوى المقاومة العربية والفلسطينية، فهذا التحدي يستهدف جبهته الداخلية ووحدته المجتمعية، وهي التي يعتمد عليها كثيراً في مواجهة الخطوب، ويبذل أقصى الجهود لتبقى آمنة مستقرةً ومطمئنّة.
وفي ظل المظاهرات التي تشهدها شوارع تل أبيب وحيفا وغيرها، احتجاجاً على قرارات “الإصلاح القضائي”، فقد ذكرت صحيفة “معاريف” الإسرائيلية، أنها أجرت بالتعاون مع معهد “مناحيم لزار”، استطلاعاً عاماً شمل عيّناتٍ عشوائيةً من المستوطنين الإسرائيليين من مناطقَ وشرائحَ مختلفة، وبحسب الاستطلاع فإن الوضع الإسرائيلي خطر، وأن 58% من المستوطنين يخشَون من خطر اندلاع حربٍ داخلية، وأن 49% من المستطلَعَة آراؤهم يعتقدون أن الجيش الإسرائيلي يعاني من نقصٍ في الكفاءة، وأن 22% من السكان يفكرون في “الهروب” ومغادرة الكيان، وأن نسبة 4% قد بدأوا بالفعل بإجراءات الهجرة.
قد تبدو نتائج هذا الاستطلاع وغيره نظرية وغير حقيقية، وقد يظنها البعض وهمية وغير دقيقة، أو أنها نتاج عقول معادية أو مؤشرات مؤسسات موجهة، ولكن المشككين بها لا يستطيعون الطعن في مصداقية الأرقام والبيانات الأخرى التي تتحدث عن أن أعداداً كبيرة من الجنود الإسرائيليين قد غادروا ثكناتهم، ورفضوا الالتحاق بوحداتهم، وامتنعوا عن أداء الخدمة العسكرية، وقد تجاوز عددهم الألف جندي من مختلف الوحدات العسكرية، كما تتناول التقارير تزايد حالات انتحار الجنود في مراكزهم العسكرية أو في بيوتهم، إضافةً إلى غيرهم من المدنيين وعامة المستوطنين.
وذكرت وسائل إعلامية إسرائيلية عديدة أن عدد الطيارين العسكريين الذين أعلنوا رفضهم الخدمة العسكرية يقترب من الثلاثمئة طيار، علماً أن سلاح الطيران الإسرائيلي يعتبر عماد الجيش وذراعه الطويلة المتفوقة، وتضيف الوسائل نفسها أن عدد الضباط الكبار الذين استنكفوا عن تأدية مهامهم في تزايدٍ مستمر، وأغلبهم من قادة وحدات النخبة التي يعتمد عليها الجيش في تأدية المهام الصعبة.
أما الدراسات التي ترصد البياناتِ الاقتصاديةَ ومؤشراتِ أسواق المال وحركةَ رأس المال، ونشاط المعامل والمصانع ومختلف المرافق الاقتصادية، فهي تتحدث بوضوحٍ تامٍ عن تراجعٍ كبيرٍ في الميزان التجاري الإسرائيلي، وانخفاض مقلق في قيمة الشيكل الإسرائيلي، وهروب رؤوس أموال كبيرة من البنوك، وانسحاب أعداد غير قليلة من كبار المستثمرين والتجار والمضاربين الإسرائيليين.
أمام موجة الاستقالات العسكرية، واستنكاف كبار الضباط وخيرة الطيارين الحربيين الإسرائيليين، يحذّر مسؤولون سياسيون وعسكريون وأمنيون، أن هذه الاستقالات تضر بأمن الدولة، وتشجع “الأعداء” على المساس بها والاعتداء عليها، ويرون أن هذا الوضع يغري حزب الله كثيراً على تغيير الوضع القائم، وتحقيق إنجازات جديدة على الأرض، تحرج الحكومة وتضعفها، وتظهر عجز الجيش عن مواجهته والتصدي له.
لم تعد الحرب الأهلية خياراً مستبعداً بين الإسرائيليين، وهي ليست أمنية فلسطينية وعربية وإن كانت كذلك، بل إن احتمال اندلاعها بين مكونات المستوطنين المتناقضة كبير جداً وقريب أيضاً، فالمجتمع الإسرائيلي ليس سلطةً ومعارضة فقط، بل هو مزيجٌ من المتدينين والعلمانيين، والمحافظين والليبراليين، والشرقيين والغربيين، والسفارديم والأشكناز، والمعتدلين والمتشددين، والسود والبيض أيضاً، فضلاً عن الأعراق المختلفة والأصول المتعددة، التي لم يعد يجمعها الحلم، أو يوحدها الخوف، وحكوماتهم لم تعد مستقرة، وآخرها لم تعد تمثلهم وتحرص عليهم، ورئيسها يسعى لمصالحه، ويحرّف القوانين لخدمته، ويعمل كل شيءٍ ليحصن نفسه ويحفظ مستقبله، ولو كان ذلك على حساب وحدة شعبه وسلامة أمنه ومستقبل وجوده.
= = = = =
*الدكتور مصطفى يوسف اللداوي – كاتب وباحث سياسي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً