بقلم الدكتور مصطفى يوسف اللداوي*
يشعر رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، المتفرد في الحكم، والمستقل في القرار، والمتحالف مع جنسه من الأحزاب الدينية المتطرفة، والمطمئن إلى أغلبية ضئيلة تؤيد حكومته، وتحافظ عليها وتجعلها مستقرة، وتحميها من المعارضة، وتحول دون حجب الثقة عنها وسقوطها في الكنيست، رغم حالة شبه الإجماع الدولي على رفض سياسته، وإدانة عدوانه على قطاع غزة، وتشوه صورة كيانه، وتراجع حجم التأييد الدولي له، والدعوات الدولية الرسمية والشعبية المتصاعدة في أنحاء العالم، لوقف الحرب وإنهاء القتال، ووضع حدٍ للمعاناة الإنسانية المهولة لسكان قطاع غزة.
ورغم المظاهرات الشعبية الإسرائيلية الواسعة التي ينظمها معارضوه في مختلف المدن “الإسرائيلية”، والتي زاد حجمها واتسع إطارها وتعددت مراكزها، بعد انضمام غانتس وآيزنكوت، عضوي مجلس الحرب السابقين إليها، والاحتجاجات التي يقوم بها ذوو الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة الفلسطينية، للمطالبة بالموافقة على الصفقة واستعادة الأسرى، واستطلاعات الرأي المتكررة التي تظهر تراجع شعبيته، وتزايد المعارضين لسياسته، والداعين لوقف الحرب واستعادة الأسرى والخروج من مأزق غزة، ولو بقيت حركة حماس في السلطة، ودفعت الحكومة أثماناً باهظة مقابل ذلك.
ورغم الانقسامات السياسية التي يعيشها كيانه، والضغوط التي يتعرض لها من حلفائه، والخلافات العميقة بينه وبين وزير حربه وقيادة أركان جيشه، والبيانات المضادة بينه وبين المسؤولين الأمنيين والعسكريين، والتي تظهر ضعف جيشه، وخلافه مع توجهات رئيس الحكومة السياسية، الذي يتهم بأنه يفضل مصالحه الشخصية على مصالح الكيان، ولا يعنيه مستقبل وسلامة الأسرى وحياة أفراد الجيش في الميدان، ويصر على استمرار الحرب رغم المعطيات الحقيقية التي تضعها قيادة الأركان بين يديه، والتي تظهر تراجع الدافعية القتالية للجيش، وإنهاك عناصره، وعدم جاهزيته، وشكواه من نقص الذخيرة والعتاد، وحاجته إلى الجنود والمقاتلين، فضلاً عن قدرة حركة حماس على ترميم قدراتها، وإعادة تنظيم صفوفها، والمبادرة بعملياتٍ نوعيةٍ موجعةٍ، ألحقت بهم خسائر فادحة، وأضعفت قدرة الجيش، وأثرت سلباً على معنويات جنوده.
رغم ذلك كله يشعر نتنياهو بأنه وبعد تسعة أشهر من الحرب والقتال، وخسارته مئات الجنود والضباط أثناء القتال في قطاع غزة، واحتمال مقتل الأسرى الإسرائيليين والفشل في استعادتهم، أنه أمام فرصة تاريخية قد لا تتحقق، وأمام مكسبٍ كبيرٍ قد يتمكن من تجييره لصالحه، وتحقيق أكثر من إنجازٍ به، كأن ينجو من المساءلة والمحاسبة والعقاب، ويستمر رئيساً للحكومة الإسرائيلية، ويحقق حلمه بأن يكون “طالوت إسرائيل”، وملكها “المنقذ المخلص”، وذلك بمواصلة الحرب والقتال حتى تحقيق الأهداف التي أعلن عنها، ظناً منه أن المقاومة قد ضعفت، وأن جاهزيتها قد تراجعت، وأن أسلحتها قد نفذت، وأن الشعب الفلسطيني قد أنهك وتعب، الأمر الذي من شأنه أن يدفع قيادته نحو التنازل والتراجع عن شروطها التي أعلنت عنها.
ويشعره بالمزيد من القوة والتحدي، أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن ضعيفة، بل عاجزة ومترددة، وهي راحلة وغير باقية، وخاسرة ولن تنجح، ولا مستقبل لها ولم يعد المزيد من الوقت أمامها، ولا تستطيع أن تأخذ أي قرارٍ أو أن تقوم بأي إجراءٍ من شأنه التأثير على سياسة الحكومة الإسرائيلية، فضلاً عن احتمالات فوز الرئيس السابق دونالد ترامب، وسيطرة الجمهوريين على مجلسي الشيوخ والنواب، وهو الحزب الأقرب إلى الكيان، والراعي له والمحافظ عليه، والضامن له والحريص على أمنه واستقراره، وتفوقه وقوته.
ويساعده في تعزيز عوامل قوته، والصمود أمام التحديات التي تواجهه، والمراوغة في مواقفه، وعدم الحسم في قراره من الصفقة، أو استعجاله لها، زيارته المرتقبة إلى واشنطن، وخطابه أمام مجلسي النواب والشيوخ يوم 24 تموز الجاري، الذي سيستعرض فيه قوته، وسيبين عزمه وإصراره على مواصلة حربه، مستغلاً التأييد الذي يحظى به كيانه من أعضاء المجلسين.
وفي زيارته المرتقبة، التي يعول عليها كثيراً، ويحلم أن يعود منها طاووساً متغطرساً مختالاً، سيعيد طرح روايته، واجترار سرديته الكاذبة التي حاول فرضها بعد أيامٍ من طوفان الأقصى، وسيستعرض تصوره لوقف الحرب، وإنهاء القتال، واليوم التالي في قطاع غزة، وشكل الحكم المطلوب، ودور الدول العربية “المعتدلة” ومعها الدول الكبرى في إدارة غزة، وحفظ أمنها، وإعادة بنائها، والمهمة التي يجب أن تقوم بها بنزع أسلحة المقاومة، وتجريدها من قوتها، ضماناً لأمن “إسرائيل”، وحفظاً لحياة مستوطنيها ومصالحها الخاصة.
لهذا وغيره، لن يكون نتنياهو سهلاً في المفاوضات، ولن يعطي الوسطاء شيئاً بسهولةٍ أبداً، وقد لا يوافق على الصفقة ولو أنه من صاغها ووضع بنودها، وسيماطل في الحوارات، وسيضيف بنوداً جديدة، وسيشطب أخرى كان قد وافق عليها، وسيستمر في نفس الدائرة المغلقة التي وضع الجميع فيها، يرسل الموفدين، ويوسع صلاحياتهم، ثم يأمرهم بالعودة ويستبدلهم، ويستعيد منهم الصلاحيات التي منحهم إياها.
وسيستغل فترة المفاوضات، التي تشارك فيها شخصياتٌ أمريكية رفيعة وعالية المستوى، وأخرى عربية على مستوى الرؤساء والملوك والأمراء، في توسيع إطار العمليات العسكرية في كل مناطق قطاع غزة، وتعميقها واستهداف المدنيين في مقارهم وأماكن لجوئهم، ظناً منه أنه سيجبر الفلسطينيين على الخروج ضد المقاومة، والتخلي عنها، ومطالبتها بوقف القتال، والامتناع عن تنفيذ عملياتٍ عسكرية ضد جنوده، علَّ قيادة المقاومة، التي ستخيب رجاءه، تتراجع عن مواقفها وتتنازل عن ثوابتها، وتقبل تحت ضغط النار ومعاناة الشعب بما يعرضه عليها، وتلتزم بشروطه وتوافق على مخططاته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور مصطفى يوسف اللداوي – كاتب وباحث سياسي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً