بقلم الدكتور آصف ملحم*
مهما كانت موارد الدولة كبيرة، فإن غياب الإدارة الحكيمة والنزيهة، القادرة على قراءة الواقع والتاريخ والجغرافيا، سيحوّلها إلى هدف للطامعين بخيراتها، الذين لا يهمهم أساساً سوى جني أرباح سريعة، حتى لو كان ذلك على حساب مواطنيها والمصالح الوطنية العليا لها؛ ولا أعتقد أننا بحاجة للبرهان على صحة هذا الطرح!
لا يخفى على المراقب والمتابع أن الجيش الأوكراني في حالة تراجع مستمر أمام التقدم الروسي على محاور الجبهة كافةً، وأنّ أوكرانيا تتكبد خسائرَ فادحةً في العتاد والجنود. حرب الاستنزاف هذه امتصت الكثير من الموارد البشرية والمالية في أوكرانيا، حتى أنّ الداعمين الغربيين أصبحوا غير قادرين على تقديم المزيد من المساعدات العسكرية والمالية، وخير دليل على ذلك بحثهم المستمر عن مصادر لتمويل الحرب هناك.
في الحقيقة، تخلق الحروب -علاوة على الدمار والمآسي- منظوماتِ فسادٍ، تستغل الفوضى في البلاد بهدف جني المال بطرق شتى. يتشارك في صناعة هذه المنظومات مجموعة كبيرة من الشخصيات، بعضها يتبوَّأ مناصبَ رسميةً. لا تقتصر شبكات الفساد التي تشكّلت على خلفية الحرب الروسية-الأوكرانية على بعض الشخصيات الأوكرانية، بل يشاركهم العديد من المسؤولين الغربيين فيها، فحجم الأموال التي يتم تقديمها لأوكرانيا كبير جداً.
في الواقع، من الصعب تغطية جميع الجوانب المرتبطة بهذا الموضوع، لذلك سأركّز على بعضها فقط لكي يدرك القارئ الكريم حجم المأساة التي وصلت أوكرانيا إليها بسبب السياسات الخاطئة التي اتبعها النظام الحاكم فيها.
بتاريخ 10 نوفمبر من العام 2022، وقّعت وزارة الاقتصاد الأوكرانية مذكّرة تفاهم مع شركة بلاك روك BlackRock، وهي أكبر شركة استثمارية في العالم. بموجب هذه المذكرة ستقوم شركة بلاك روك بتقديم المساعدة الاستشارية لتطوير منصة خاصة لجذب رأس المال لاستعادة أوكرانيا ودعم اقتصادها.
في 8 مايو 2023، وقّعت أوكرانيا اتفاقية مع شركة بلاك روك بهدف إطلاق (صندوق تطوير أوكرانيا)، والهدف هو جذب رأس المال الخاص لإقامة مشاريع كبرى في مجال الطاقة والبنى التحتية والزراعة. وهذا يعني وكأنه سيتم إدارة الاقتصاد الأوكراني كله من قبل شركات خارجية.
تؤكد بعض المصادر الصحفية الأوكرانية أن بلاك روك تدير الآن العديد من الشركات الكبيرة في أوكرانيا، في مجال الزراعة والصناعات الغذائية والنفط والغاز والبنى التحتية والدفاع والطاقة النووية. وهذا يعني أن بلاك روك ستصبح المالك الحقيقي للعديد من المؤسسات والشركات الأوكرانية ذات الطبيعة الاستراتيجية.
فضلاً عن ذلك، وفق ما نقلت رويترز، أسست بلاك روك مع بنك JPMorgan Chase مصرف إعادة إعمار أوكرانيا. ولقد أكّد السيد فيليب هيلديبراند، نائب ممثل شركة بلاك روك، في منتدى دافوس الاقتصادي الدولي، الذي انعقد في يناير الماضي، أن هذا البنك سيبدأ عمله خلال سنة 2024.
تُعتبر بلاك روك الفرع الرابع للسلطة في الولايات المتحدة الأمريكية، وفق تعبير بلومبرغ. فهي الشركة الخاصة الوحيدة التي تعمل بشكل مباشر مع البنوك المركزية في الولايات المتحدة وأوروبا. جميع موظفيها عملوا لوقت طويل في البيت الأبيض. أصول معظم الشركات الكبرى تدار من قبل بلاك روك. في نهاية يونيو الماضي بلغ حجم الأصول التي تديرها بلاك روك 10.65 تريليون دولار، وفق معطيات وكالة إنترفاكس الروسية. بالمقابل فلقد بلغ حجم الأصول التي يديرها بنك JPMorgan Chase في عام 2023 حوالي 4 تريليون دولار، وفق التقرير السنوي الصادر عن البنك نفسه في آذار 2024. أي أننا أمام مؤسستين تتحكمان بأموالٍ، حجمها أكبر من نصف الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة الأمريكية؛ وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة بلغ 27 تريليون دولار في عام 2023.
أثارت هذه التحولات حفيظة البعض، بما في ذلك أولئك المحسوبين على زيلينسكي نفسه، فلقد دق السيد إيغور موسيتشوك ناقوس الخطر قائلاً ما معناه:” هذه الإجراءات ستقود إلى تخلي أوكرانيا عن سيادتها الاقتصادية لصالح إدارات خارجية”. وللمفارقة، كان السيد موسيتشوك عضواً في مجلس الرادا، ويعتبر في أوكرانيا من مؤيدي التيار النازي. كما عبّر عن ذلك بعض المراقبين في مقالاتهم بعبارات مختلفة، من قبيل: “تريد بلاك روك شراء أوكرانيا، تبنّي استعادة أوكرانيا تعني بيعها كأجزاء “… الخ.
في الواقع، الآلية واضحة للغاية، فالاقتصاد الأوكراني الآن في حالة سيئة للغاية، في حين أن بلاك روك وجي بي مورغان ستحصلان على التمويل من قبل الحكومة الأوكرانية، التي ستحصل عليه بدورها من قبل دافع الضرائب في الولايات المتحدة على شكل قروض.
يبدو بوضوح أن النخبة الحاكمة في أوكرانيا غير معنية بكل ذلك، أو أنها غائبة تماماً عن واقع الحال في أوكرانيا، وهمها الأول التفكير بمصالحها الخاصة على حساب الشعب الأوكراني. وهنالك الكثير من القرائن التي تدل على أن القيادة الأوكرانية تحاول استجرار المساعدات المالية من دول الاتحاد الأوروبي، أو اقناع الأوربيين بالاستيلاء على الأصول الروسية المجمدة، فقط من أجل مصلحة الرئيس الأوكراني الخاصة ومصالح الدائرة الضيقة المحيطة به. وهنا سنذكر مثالين للتوضيح فقط:
1-وفقاً لمعطيات فوربس، أصبح زيلينسكي أكثر غنىً بمقدار 850 مليون دولار في السنة الأولى للحرب؛ أي أن ثروة الرئيس الأوكراني تزداد يومياً بمقدار 2.3 مليون دولار.
2-في صيف عام 2022 حاول رئيس الوزراء الأوكراني (دينيس شميغال) و (يوري فيترينكو) رئيس شركة النفط والغاز الوطنية (نافطوغاز أوكرايينا) الترويجَ لموضوع وجود نقص في كميات الغاز الضرورية لتغطية حاجات أوكرانيا في الشتاء. ولهذا الغرض تقدّم إلى وزارة الطاقة الأوكرانية بمجموعة من الوثائق التي تتضمّن بيانات غير صحيحة بأنه سيكون هنالك نقص في كميات الغاز بمقدار 3.9 مليار متر مكعب، وبالتالي لتغطية هذا النقص لا بد من استيراد هذه الكمية من الخارج، وثمن هذه الكمية حوالي 6 مليار دولار. والغاية هي سرقة جزء من هذه الأموال المخصصة لاستيراد الغاز. مع العلم أن المطالعة التي قدمها عضو مجلس الرادا ونائب رئيس اللجنة البرلمانية لقضايا الطاقة والشؤون العمرانية، السيد ألكسي غونتشارينكو، بتاريخ 18 تموز 2022، بيّنت أن الأرقام التي قدمتها شركة النفط والغاز الوطنية (نافطوغاز أوكرايينا) غير حقيقية.
أثار الفساد المستشري في أوكرانيا حفيظة الدول الغربية نفسها. فالسيدة بينّي بريتسكر، المبعوث الأمريكي الخاص لشؤون إصلاح أوكرانيا، أثناء زيارتها لكييف في يناير السابق ألمحت إلى هذه المسألة بشكل مباشر. وقتها وافق مجلس الرادا على تعيين السيدة أولغا بيشانسكايا رئيساً للهيئة العليا للحسابات، وهي مقربة من عائلة زيلينسكي، فأختها سفيتلانا بيشانسكايا كانت مديراً لشركة، وعلى اسم هذه الشركة تم تسجيل فيلّا تعود لعائلة زيلينسكي في إيطاليا، وفق رواية عضو مجلس الرادا ألكسي غونتشارينكو. قالت بريتسكر في تلك الزيارة، ما معناه أنه لا يكفي تعيين الأشخاص ولا سنُّ القوانين، بل لا بد من إجراء تحقيقات حول الأشخاص، والولايات المتحدة لن تصمت بعد اليوم عن مثل هذه التعيينات!
هناك العديد من التقارير الصحفية التي تؤكد أن شبكات الفساد تشمل كل شيء في أوكرانيا، بما في ذلك المساعدات العسكرية والإنسانية والشحنات الغذائية وأعمال صيانة المعدات العسكرية…. الخ. لذلك فإن انكشاف هذه المعلومات للرأي العام سيؤدي إلى تدهور سمعة القيادات الغربية أمام الشارع الغربي نفسه.
في أوكرانيا، لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل أن الأمر وصل إلى الأراضي الزراعية، المورد الأهم في أوكرانيا، التي يمكن اعتبارها سلة غذاء أوروبا. ففي دراسة صادرة عن معهد أوكلاند سنة 2023 تؤكد أن أكثر من 2.7 مليون هكتار من الأراضي الزراعية الخصبة مملوكة لـ 9 شركات أجنبية مقراتها تقع خارج أوكرانيا، وتحديداً في: لوكسمبورغ و \قبرص والولايات المتحدة الأمريكية وهولندا والمملكة العربية السعودية. في حين بلغت المساحة الكلية للأراضي الزراعية المملوكة لشركات أجنبية في آب عام 2022 حوالي 4.4 مليون هكتار.
وقصة السماح ببيع الأراضي الزراعية للأجانب لم تبدأ اليوم، بل بدأت بعد الانقلاب الذي حصل في أوكرانيا عام 2014. فالعديد من المؤسسات المالية الغربية، وتحديداً البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتطوير وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ضغطت على أوكرانيا بهدف إزالة الحظر المفروض على بيع الأراضي الزراعية، إلى أن تم رفع هذا الحظر في يوليو عام 2021، وهذا ما أتاح الفرصة للشركات الخاصة بشراء الأراضي الزراعية في أوكرانيا.
ما قدّمناه في الأعلى هو مجرّد إضاءة سريعة حول هذا الموضوع، بنيناها على المعلومات والبيانات المتوفرة بين أيدينا. لذلك فلا عجب، والحال كذلك، أن نجد أوكرانيا بعد فترة من الزمن غارقة في الفساد والديون أمام الشركات الاستثمارية الغربية العملاقة، وأن تضطر إلى بيع الأرض الأوكرانية كلها لإيفاء ديونها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور آصف ملحم – مدير مركز JSM للأبحاث و الدراسات (موسكو).
*تم نشر هذه المقالة سابقاً في صحيفة رأي اليوم اللندنية.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها