بقلم الدكتور آصف ملحم*
بدأ الوهن والضعف يتسرّب إلى الدعم الغربي لأوكرانيا؛ فتكاليف الحرب هناك أثقلت كاهل الاقتصادات الغربية. أوكرانيا نفسها لم تحقق إنجازاتٍ عسكريةً تستحقّ الذكر في هجومها المضاد بالرغم من كل الدعم الغربي المالي والعسكري، الأمر الذي دفع الكثيرين، على المستوى الشعبي والرسمي، إلى طرح السؤال البسيط الآتي:
إلى متى سيستمر الأمر على هذه الحال، نرسل الحزمة تلو الحزمة من المساعدات، و أوكرانيا تراوح مكانها؟
لن نخوض في كل الأزمات التي نشأت في الدول الغربية على خلفية الحرب الروسية-الأوكرانية، فهي كثيرة ومتنوعة وتشمل مجالاتٍ عدة، اقتصادية واجتماعية وسياسية. و خير دليل على ذلك المظاهرات و الاحتجاجات التي شهدتها بولندا و رومانيا و ألمانيا، و تصاعد شعبية اليمين المتطرف في أوروبا.
من هنا نفهم السعي الأمريكي الحثيث للبحث عن مصادرَ لتمويل الحرب في أوكرانيا؛ فلقد تصاعد الحديث في الأسابيع الأخيرة عن إمكانية الاستيلاء على الأصول الروسية المجمّدة في المصارف الغربية بسبب العقوبات. دعمت إدارة بايدن هذه الخطوة بدعوى استخدامها لـ (المساعدة في إعادة إعمار أوكرانيا)، مع العلم أنّ الرئيس الأمريكي بهذه الطريقة يحاول إقناع الكونغرس بالموافقة على تمويل الحرب هناك؛ إذ أنه بدأ طرح هذا الموضوع بعد عرقلة الجمهوريين تقديم مبلغ 60 مليار دولار كمساعدة لكييف.
بلغ حجم أصول المصرف المركزي الروسي في نهاية عام 2021 حوالي 640 مليار دولار، وفق ما أعلنت وزارة المالية الروسية. يبدو أن روسيا تحضّرت لاحتمال فرض عقوبات عليها، فبدأت بتحويل جزء من هذه الأصول إلى دول صديقة، فانخفض حجم أصولها إلى 604.4 مليار دولار في نهاية آذار 2022، وفق ما صرّح به جوزيب بوريل، مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي. تؤكّد المعطيات التي نشرتها فوربس أن الأصول المجمّدة في المصارف الأجنبية بلغت في آذار من عام 2022 حوالي 300 مليار دولار، على الرغم من أن المصرف المركزي الروسي وبعض وسائل الإعلام قدّموا أرقاماً مختلفة قليلاً للأصوال الروسية المجمّدة، ولكن الفروقات طفيفة للغاية.
وفق المعطيات التي نشرتها وكالة ريا نوفوستي الروسية مؤخراً، الأصول الروسية المجمّدة مودعة بشكل أساسي في: النمسا، بريطانيا، ألمانيا، كندا، الولايات المتحدة، فرنسا، اليابان. كما يوجد أيضاً حوالي 63 مليار دولار لم يتم تحديد أسماء المصارف و الدول المودعة فيها. يصل حجم الأموال المجمدة في الاتحاد الأوروبي وحدَهُ إلى حوالي 200 مليار دولار، أما الباقي في الولايات المتحدة واليابان وباقي دول العالم.
روسيا بدورها وعدت بأنها ستقوم بخطوات مماثلة كردٍّ على السلوك الغربي. و الحقيقة أن حجم استثمارات الاتحاد الأوروبي و مجموعة السبع و أستراليا و سويسرا في الاقتصاد الروسي وصل إلى حوالي 288 مليار دولار في نهاية عام 2022.
فضلاً عن ذلك، بعد قيام موسكو بمنع الأجانب والشركات الأجنبية من الدول غير الصديقة إخراج أموالهم من روسيا، لجأ العديد منهم إلى فتح حسابات من نوع C، حيث يتمكن الأجانب من إجراء الصفقات باستخدام هذه الحسابات دون الحصول على موافقات خاصة من وزراة المالية الروسية. في آذار من السنة الماضية بلغ حجم الأموال المودعة في هذا النوع من الحسابات حوالي 6.5 مليار دولار، وفق بيانات المصرف الروسي لتمويل الشركات. أي أن مجموع الأموال التي تستطيع روسيا الاستيلاء عليها حوالي 294.5 مليار دولار.
تشير المعطيات السابقة أن حجم الأموال المودعة عند الطرفين، الروسي و الغربي، تقريباً متساوٍ، لذلك فإن الضرر متكافئ تماماً في الجانبين. هذا، في الواقع، ليس أكبر العوائق ولا آخرها؛ فلقد نوقشت مسألة الاستيلاء على الأصول الروسية في منتدى دافوس الاقتصادي، وتبيّن أنه يوجد العديد من المحاذير المرتبطة بالموضوع. فلقد أكّدت السيدة بينّي بريتسكر، المبعوث الأمريكي الخاص لشؤون إصلاح أوكرانيا، “أنه لا اعتراض من حيث المبدأ على هذه الخطوة، ولكن الشياطين تكمن في التفاصيل”. وأضافت: إن هذه العملية بطيئة وصعبة للغاية ونحتاج للقيام بذلك إلى (آلاف المحامين)”! وهذا ما دفع بعض الدول الغربية، وخاصةً دول الاتحاد الأوروبي، للنظر إلى موضوع الاستيلاء على الأموال الروسية بالكثير من البرود والحذر والتوجس.
في الحقيقة، أسست واشنطن عدّة مجموعات عمل، تعمل بشكل سري للغاية، لدراسة النواحي القانونية المرتبطة بعملية الاستيلاء على الأصول الروسية. وسيتم تحريك هذا الملف ضمن إطار مجموعة السبع، التي قد تنعقد قمتها بتاريخ 24 فبراير المقبل، أي في الذكرى الثانية لبدء الحرب الروسية-الأوكرانية – وفق ما نقلت صحيفة الفاينانشال تايمز.
على هذه الخلفية، وبهدف الالتفاف على الصعوبات الكامنة خلف هذه المسألة حاول الاتحاد الأوروبي اقتراح مجموعة من الإجراءات المغايرة للاستفادة من الأموال الروسية المجمّدة، أهمها:
1-فرض ضرائب على الأرباح المتوقعة للأموال الروسية المجمّدة. إلا أن هذه العملية بطيئة للغاية من جهة، كما أنّ الخبراء الماليين، وخاصةً من فرنسا وألمانيا والمصرف الأوروبي المركزي، حذّروا بأن هذا الإجراء قد يؤدي إلى زعزعة استقرار النظام المالي في منطقة اليورو.
2-رئيس الوزراء البلجيكي، ألكساندر دو كارو، أكّد، في منتدى دافوس، أن الجميع يبحث عن آليات ما للاستفادة من الأصول الروسية المجمّدة، معتبراً أن هذه الأصول بمثابة (الرهون) التي تساعد على جذب الأموال لمساعدة أوكرانيا. فوفقاً لدو كارو،” لبعض الأوراق المالية فترة سداد، ويترتب على تحويلها إلى نقود ضريبة مقدارها 25%”. فحسب كلامه كان حجم هذه الضريبة حوالي 1.3 مليار يورو في عام 2023، و ستكون بحدود 1.7 مليار يورو في عام 2024.
3-اقترح بعض المسؤولين الغربيين أن يتم إصدار ما تمت تسميته (سندات مالية تعويضية)، قيمتها تساوي حجم الأصول الروسية المجمّدة. في هذه الحالة لن يكون عند حامل السندات عقود قانونية تعطيه الحق بالحصول على الأموال الروسية المجمّدة. ولكن يمكن الحصول على الأصول المجمّدة إذا تم طرح آلية قانونية لتعويض كييف عن الضرر الذي سببته موسكو بسبب عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا. هذه الطريقة يمكن أن تنجح في حالة واحدة، إذا قامت الولايات المتحدة و دول الاتحاد الأوروبي و حلفاء أوكرانيا بشراء هذه (السندات المالية التعويضية).
يعكس هذا الجدل أن الحصول على هذه الأموال لن يكون ترياقاً يساهم في حل كل مشاكل أوكرانيا، و لكن النقاش حوله أصبح يتصدر معظم النشاطات التي تجمع المسؤولين الغربيين. الحقيقة أنه حتى هذه اللحظة لا توجد أي خطوات أو إجراءات عملية. لكن بغض النظر عن هذا و ذاك ستكون هذه الخطوة سابقة في غاية الخطورة؛ فهذا الإجراء هو سرقة مباشرة من جهة، كما أنها سترسل رسالة سلبية لكل الدول التي تودع أموالها في المصارف الغربية من جهة ثانية. وهذا ما سيؤدي إلى ازدياد النزوع للتخلي عن الدولار و تراجع الثقة بالنظام المالي الأمريكي في المستقبل المتوسط و البعيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور آصف ملحم – مدير مركز جي إس إم للأبحاث و الدراسات (موسكو).
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً