بقلم الدكتور يونس الديدي*
المتأمّل في مسلسل الدراما الجيوسياسية الذي يعصف بالشرق الأوسط، يدرك أن الحدود السورية-الإسرائيلية وكأنها صفيح ساخن يترقّبه الجميع بحذر، خشيةّ أن يتحول إلى نار تلتهم المنطقة. إسرائيل، كمشاهد قلق يتربص بالحلقة الأخيرة من هذا العرض، تكثف استفزازاتها على الحدود مع سوريا، وكأنها تحاول انتزاع السيناريو من يد المخرج الجديد: الإدارة السورية الناشئة المدعومة من تركيا. لكن المفارقة أن هذه الحلقة الأخيرة ليست مجرد تسلية، بل اختبار خطير لنوايا اللاعبين الجدد في دمشق، الذين يتمتعون الآن بشرعية دولية وعربية متزايدة، بينما تجد إسرائيل نفسها في موقف جيوسياسي أضعف مما تبدو عليه آلات دعايتها الماهرة.
استفزازات إسرائيل: محاولة لقراءة المستقبل
منذ سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، بدأت إسرائيل في تصعيد عملياتها العسكرية على الحدود السورية، متجاوزة المنطقة العازلة التي أُسست بموجب اتفاقية فضّ الاشتباك عام 1974. تقارير أشارت إلى توغلات برية إسرائيلية في ريف القنيطرة ودرعا، مدعومة بالدبابات والجرافات، مع تفجير مستودعات ذخيرة وجمع بيانات عن السكان المحليين. هذه التحركات ليست مجرد استعراض عضلات عسكري، بل محاولة واضحة لاستكشاف ردود فعل الإدارة الجديدة في دمشق، التي يقودها أحمد الشرع بدعم تركي صلب.
إسرائيل، التي اعتادت على التعامل مع نظام الأسد كخصم يمكن التنبؤ به، تجد نفسها الآن أمام لغز سياسي. الإدارة الجديدة، التي تحظى بتأييد عربي واسع وتسعى لتثبيت شرعيتها الدولية، لم تكشف بعد عن استراتيجيتها الكاملة تجاه تل أبيب. هذا الغموض يدفع إسرائيل إلى اللعب بورقة الاستفزاز، كمن يطرق جداراً ليرى إن كان صلباً أم هشاً. لكن هذه اللعبة محفوفة بالمخاطر، إذ قد تؤدي إلى تصعيد غير محسوب في وقت تحتاج فيه المنطقة إلى الاستقرار أكثر من أي وقت مضى.
الخسارة الجيوسياسية: إسرائيل تحت المجهر
على الرغم من الرواية التي تحاول إسرائيل تسويقها عبر دعايتها – تلك التي تصورها كقوة لا تُقهر تحمي حدودها – فإن الواقع الجيوسياسي يروي قصة مغايرة. فالحرب الأخيرة على غزة، التي بدأت في أكتوبر 2023 وأودت بحياة أكثر من 45 ألفاً و581 شهيداً، و108 آلاف و438 مصاباً منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. حسب تقارير وزارة الصحة في غزة لم تكن هذه الإبادة الجماعية فيها مجرد كارثة إنسانية، بل نقطة تحول في نظرة جيران إسرائيل إليها. الدول التي وقّعت أو اقتربت من توقيع اتفاقيات تطبيع – بات الارتباط بإسرائيل يشبه وضع اليد في جسم سام سياسياً. ليس الأمر مجرد إحراج أخلاقي، بل حسابات براغماتية تتعلق بالاستقرار الداخلي وصورة هذه الدول أمام شعوبها.
في السابق، كانت إسرائيل تعتمد على انقسام العالم العربي وسكوت بعض حكوماته لتثبيت هيمنتها الإقليمية. لكن اليوم، مع صعود إدارة سورية جديدة تحظى بقبول عربي واسع، ومع تراجع الثقة بها حتى بين حلفائها التقليديين، تظهر إسرائيل كمن يقاتل للحفاظ على وهم القوة. جيرانها، الذين كانوا يفكرون مرة واحدة قبل اتخاذ موقف منها، أصبحوا الآن يفكرون مئة مرة، ليس خوفاً منها، بل لأن التحالف معها لم يعد يحمل المكاسب الاستراتيجية التي كان يعد بها في السابق.
تركيا والشرعية: معادلة جديدة
في هذا السياق، تبرز تركيا كلاعب محوري يعزز من تعقيد المشهد بالنسبة لإسرائيل. دعم أنقرة للإدارة السورية الجديدة ليس مجرد مسألة نفوذ إقليمي، بل خطوة محسوبة لإعادة تشكيل التوازنات في المنطقة. الإدارة الجديدة، التي تتمتع بشرعية متزايدة بفضل تأييد دولي وعربي، تضع إسرائيل أمام خيار صعب: إما التصعيد العسكري المستمر، الذي قد يعزلها أكثر، أو البحث عن ترتيبات أمنية تضمن مصالحها دون مواجهة مباشرة مع قوة مدعومة من تركيا وحلفائها.
لكن إسرائيل، التي أوضحت عبر وسطاء أنها لا تنوي البقاء بشكل دائم في المنطقة العازلة، تبدو غير مستعدة بعد للتخلي عن سياسة العصا لصالح الجزرة. تصريحات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، التي أكد فيها بقاء القوات الإسرائيلية في الأراضي السورية حتى تتضح الترتيبات الأمنية، تعكس هذا التردد. إنها كمن يحمل صفيحاً ساخناً بيديه، يخشى إسقاطه خوفاً من الحريق، لكنه لا يملك خطة واضحة لتبريده.
جيران إسرائيل: الحرج البراغماتي
إذا نظرنا إلى خريطة المنطقة اليوم، سنجد أن إسرائيل محاطة بحزام من الحذر. الأردن، الذي يرتبط معها باتفاقية سلام منذ 1994، يواجه ضغوطاً داخلية متزايدة بسبب مواقفه في سياق الحرب على غزة. مصر، الحليف التقليدي الآخر، تجد نفسها في موقف لا تحسد عليه، إذ تضطر للموازنة بين مصالحها الأمنية وغضب شعبي متصاعد. أما دول الخليج، التي بدأت تطبيعاً تدريجياً مع إسرائيل، فقد أدركت أن هذا التطبيع قد يكلّفها استقرارها الداخلي أكثر مما يمنحها مكاسب استراتيجية.
الحرب على غزة، التي دمّرت البنية التحتية في القطاع وهجّرت 1.9 مليون فلسطيني، حسب تقارير منظمة العفو الدولية، لم تكن مجرد هزيمة أخلاقية لإسرائيل، بل لحظة كشفت هشاشة تحالفاتها. جيرانها لم يعودوا قادرين على تبرير دعمهم لها دون أن يظهروا كمن يسير في حقل ألغامٍ، محاطاً بالمخاطر من كل جانب.
خاتمة: حلقة مفتوحة
الحدود السورية-الإسرائيلية اليوم ليست مجرد خط فاصل جغرافي، بل استعارة حية للتوتر الذي يعيشه الشرق الأوسط. إسرائيل، التي تحاول فرض إرادتها بالقوة، قد تجد نفسها في النهاية كمن أشعل صفيحاً ساخناً دون أن يمتلك ماءً لإطفائه. أما الإدارة السورية الجديدة، فإنها تملك فرصة لتحويل هذا التوتر إلى نقطة قوة، إذا ما نجحت في استثمار شرعيتها الدولية والعربية لفرض ترتيبات تحفظ الاستقرار. الحلقة الأخيرة لم تُكتب بعد، لكن الجميع يترقب – بحذر وقلق – ما ستحمله الأيام القادمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور يونس الديدي – كاتب صحفي، محاضر وأستاذ جامعي، باحث في الشؤون السياسية.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً