بقلم الأستاذ إدريس أحميد*
مقدمة
تستمر الأزمة الليبية في عامها الرابع عشر، وسط حالة من الشد والجذب بين مختلف القوى الفاعلة. وعلى الرغم من إدراك الليبيين لتعقيد الوضع، إلا أنهم لم يصلوا إلى قناعة كاملة بإيجاد حلٍّ داخلي، بل لا يزالون ينتظرون تدخّلات خارجية، خاصة من الولايات المتحدة والأمم المتحدة، لتحديد شكل الدولة والنظام السياسي.
في الواقع، لم يحسم الليبيون أمرهم بشأن هوية الدولة وشكل نظامها السياسي، ما أدى إلى استمرار حالة الانقسام. كما زادت الصراعات الإقليمية والدولية من تعقيد المشهد، حيث تتباين المصالح بين الداخل والخارج، مما جعل القرار الليبي مرهونًا بالتدخلات الأجنبية.
الإكراهات والحلول في التحول السياسي الليبي:
يُعدّ الانتقال من نظام سياسي إلى آخر عمليةً معقّدةً، خاصة عندما يكون هذا التحول مصحوباً بانقسامات وصراعات وإقصاء متبادل. بعد 2011، كان من المفترض أن يتمّ وضع خطة انتقالية واضحة، لكن ما حدث هو الإطاحة بالنظام السابق دون اتفاق على ملامح النظام الجديد.
أدّى ذلك إلى تصاعد التباين بين التيارات السياسية المختلفة، وخاصة بين الإسلاميين والليبراليين، مما عمّق الانقسام السياسي وأطاح بفرصة بناء مؤسسات قوية. إضافة إلى ذلك، لعبت التركيبة المجتمعية ومستوى الوعي والثقافة السياسية دوراً في تأخير بناء دولة ديمقراطية حديثة.
الإشكاليات المجتمعية والثقافية:
لا يزال مفهوم الدولة الحديثة غير مترسّخ في الوعي الجمعي، حيث تميل فئات واسعة إلى التعامل مع الدولة كمصدر للمنح والامتيازات، بدلاً من كونها منظومة قانونية ومؤسساتية تُدار وفق أسس الحكم الرشيد. ومن أبرز العوامل التي ساهمت في تعقيد الأزمة الليبية:
1.الاقتصاد الريعي وتعميق الاتكالية
اعتمدت ليبيا لعقود على الاقتصاد الريعي القائم على النفط، مما عزز عقلية الاتكالية لدى المواطنين، حيث ينتظرون من الدولة تأمين احتياجاتهم دون الإسهام في الإنتاج والتنمية.
2.العادات والتقاليد القبلية
لا تزال القبلية تلعب دوراً قوياً في المشهد السياسي، مما يعوق بناء دولة المواطنة وسيادة القانون. فالروابط القبلية غالباً ما تُفضَّل على القوانين والمؤسسات الرسمية، ما يجعل الانتخابات وغيرها من العمليات الديمقراطية رهينة للولاءات الضيقة.
3.ضعف الوعي السياسي
بعد عقود من الحكم الفردي، انتقل الليبيون فجأة إلى نظام الأحزاب والانتخابات، دون تهيئة فكرية كافية لهذا التحول. كما لم يجد المجتمع الوقت الكافي لاستيعاب العملية الديمقراطية بسبب استمرار الانقسام السياسي.
4.انتشار الفساد
الفساد أصبح ظاهرة متجذّرة نتيجة سياسات الدولة السابقة، حيث اعتمدت على القطاع العام دون تحفيز القطاع الخاص، مما أدى إلى انتشار الفساد بشكل ممنهج، خاصة بعد 2011.
5.إقصاء الخبرات والكفاءات
تمّ استبعاد العديد من الكفاءات بحجّة انتمائها إلى النظام السابق، مما أدى إلى خسارة خبرات مهمة كان من الممكن أن تساهم في بناء الدولة.
دور وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي في الأزمة الليبية:
يلعب الإعلام دوراً أساسياً في تشكيل وعي المجتمع، لكنه قد يكون أيضاً أداةً لتعزيز الانقسامات وتأجيج الصراع. بعد 2011، شهدت ليبيا طفرة إعلامية غير مسبوقة، حيث ظهرت العديد من القنوات الفضائية، والإذاعات، والمواقع الإخبارية، إضافة إلى الانتشار الواسع لوسائل التواصل الاجتماعي.
لكن بدلاً من أن تكون وسائل الإعلام أداة لتعزيز الاستقرار، تحوّلت في كثير من الأحيان إلى منصات للصراع السياسي والدعائي.
كيف ساهمت وسائل الإعلام في الأزمة الليبية؟
1.التركيز على المواضيع الجدلية
بدلاً من تقديم خطاب وطني جامع، ركّزت العديد من وسائل الإعلام على إثارة القضايا الخلافية وتعميق الانقسامات داخل المجتمع.
2.الترويج لخطابات الكراهية والاستقطاب
أصبحت بعض القنوات الإعلامية أدوات للتعبئة الأيديولوجية والسياسية، مما عزّز الانقسامات القبلية والمناطقية والفكرية.
3.نشر الإشاعات والتضليل
اعتمدت بعض المنصّات الإعلامية على نشر أخبار مضلّلة بهدف توجيه الرأي العام وفق أجندات سياسية معينة، مما زاد من حالة الارتباك وعدم الثقة.
4.التأثير السلبي لوسائل التواصل الاجتماعي
أصبحت منصات التواصل الاجتماعي بيئة خصبة لنشر الأخبار الزائفة، مما ساهم في تضليل المجتمع ونشر الفوضى المعلوماتية.
5.خدمة أجندات خارجية
بعض وسائل الإعلام لعبت دوراً في تنفيذ سياسات قوى إقليمية ودولية تسعى لاستمرار الأزمة بما يخدم مصالحها.
كيف يمكن للإعلام أن يساهم بشكل إيجابي؟
1.تعزيز الوعي الإعلامي
من خلال برامج تثقيفية تساعد المواطنين على التمييز بين الأخبار الصحيحة والمضلّلة.
2.وضع قوانين تنظيمية
لضمان التزام وسائل الإعلام بالمعايير المهنية والأخلاقية، بعيداً عن التحريض والتضليل.
3.تشجيع الإعلام الوطني المسؤول
الذي يساهم في تعزيز الحوار الوطني وطرح حلول واقعية للأزمة.
4.مكافحة الأخبار الزائفة
عبر تطوير منصات للتحقق من الأخبار، مما يحدُّ من انتشار الشائعات والمعلومات المضلّلة.
الإصلاحات المطلوبة لإنهاء الأزمة:
إصلاح النظام التعليمي: عبر إدخال مناهج حديثة تُرسّخ قيم الديمقراطية والمواطنة.
إعادة هيكلة الاقتصاد: لتقليل الاعتماد على النفط وتحفيز القطاعات الإنتاجية الأخرى.
تعزيز الحوار الوطني: من خلال برامج مصالحة شاملة تهدف إلى توحيد الصف الليبي.
إن الإعلام والثقافة يشكلان عنصرين حاسمين في بناء ليبيا المستقبل، وهما الوسيلتان الأساسيتان لتوعية المجتمع وتحقيق التوافق الوطني، بعيداً عن التأثيرات الخارجية والمصالح الضيقة.
خاتمة
إذا لم يتم ضبط المشهد الإعلامي في ليبيا، فسيظل أداة لتمزيق النسيج الاجتماعي وإطالة أمد الصراع. لكن الوعي المجتمعي بدأ يتحسن، حيث أصبح كثير من الليبيين أكثر وعياً بتأثير الإعلام السلبي، وبدأوا في الانصراف عن الوسائل التي تروّج للخطاب التحريضي.
في النهاية، ليس أمام الليبيين سوى نبذ السلبية والمطالبة بحقهم في بناء دولتهم، عبر الاعتراف بفشل بعض الأطراف في إدارة المشهد، وضرورة تجاوز مرحلة الشعارات التي أُفرغت من مضمونها. كما أن الخيار الآخر يتمثل في دعم المؤسسات الوطنية، مثل المؤسسة العسكرية للعملية السياسية الداعمة ، التي تمكنت من تأمين مساحات واسعة من البلاد، والعمل على تنفيذ قرارات لجنة 5+5 لضمان الاستقرار الأمني والسياسي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الأستاذ إدريس أحميد – كاتب صحفي وباحث في الشأن السياسي المغاربي و الدولي.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً