بقلم الدكتور آصف ملحم*
دار الكثير من الجدل في الأيام الأخيرة حول صفقة استثمار موارد أوكرانيا، المزمع توقيعها بين كييف وواشنطن أثناء زيارة الرئيس الأوكراني إلى واشنطن اليوم الجمعة.
الحكومة الأوكرانية نشرت مشروع اتفاقية استثمار المعادن النادرة يوم 26 فبراير الجاري في وسائل الإعلام، حملت هذه الاتفاقية العنوان: (اتفاقية ثنائيّة بشأن وضع قواعد وشروط صندوق الاستثمار لإعادة الإعمار)، وأكّدت أنّ هذا النص تمّ تنسيقه والاتفاق عليه مع واشنطن. بالمقابل، قال وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو: “لم يتم التوافق بعد على كل التفاصيل والعمل مستمر عليها”.
أبدى زيلينسكي تقييماً إيجابياً لمسوّدة الاتفاق، وشدّد بشكل خاص على أن الاتفاق لا يتضمّن إعادة أي أموال قدمتها الولايات المتحدة بالفعل لأوكرانيا، وهو ما يتناقض بشكل مباشر مع كل ما صرّح به ترامب في السابق بشأن توقعاته من الاتفاق. وقال زيلينسكي: “الأمر الرئيسي بالنسبة لي هو أننا لسنا مَدينين. الاتفاق لا يشمل ديوناً بقيمة 500 مليار دولار، ولا 350، ولا 100 مليار دولار. لن أوافق حتى على سداد 10 سنتات من الديون في هذه الصفقة مع الولايات المتحدة. سيكون ذلك غير عادل بالنسبة لنا. لم تكن هناك اتفاقيات من هذا القبيل من قبل، لذلك لا يوجد شيء يمكن الحديث عنه. الشيء المهم هو الحديث عما هو جديد، إذا كنا نتحدث عن الصندوق، فهذه أيضاً قضية محلولة في هذه الاتفاقية الإطارية، فأنا أعتقد أن (أوكرانيا والولايات المتحدة) شركاء فيها، وهذا الصندوق أوكراني-أمريكي، ونحن لا نديره بشكل مشترك فحسب، بل لدينا أيضاً حقوق”.
يوحي كل هذا بأنّ الصفقة تمّت وأنّ الاتفاق سيتم توقيعه في الأيام المقبلة. ومع ذلك، بدأت تبرز بعض الإشارات التي تؤكّد أن الموضوع ليس بهذه البساطة.
على هذه الخلفيّة، يبرز السؤال:
لماذا سمعنا كل هذا الكلام المتناقض و ردود الأفعال المتباينة؟
الجواب يمكن العثور عليه في مسوّدة الاتفاق المنشورة في وسائل الإعلام الأوكرانية.
النقاط الرئيسة للاتّفاق:
1.لا يتضمّن الاتفاق ضماناتٍ أمنيّةً لأوكرانيا من الولايات المتحدة، وهو ما أصرّ عليه زيلينسكي. تمّ ذكر عبارة “الضمانات الأمنية” مرة واحدة فقط: “تدعم حكومة الولايات المتحدة جهود أوكرانيا للحصول على الضمانات الأمنية اللازمة لإحلال السلام الدائم”.
وهذا يعني أنّ مشروع الاتفاق لا يتحدّث عن تقديم ضمانات أمنية، بل عن “دعم جهود أوكرانيا” للحصول عليها. علاوة على ذلك، من سياق النص يتبيّن أن هذه الضمانات يجب أن تقدّمها جهة أخرى غير الولايات المتحدة. لأنه سيبدو غريباً أن نقول: “تدعم واشنطن جهود واشنطن الرامية إلى الحصول على ضمانات تقدمها واشنطن”.
زيلينسكي نفسه اعتبر أن ذكر عبارة “ضمانات أمنية” بحد ذاته هو أمر مهم بالنسبة له.
2.لم يتم تسمية من الذي سيدير عمل الصندوق على وجه التحديد وكيف، وما هي الأموال التي ستذهب من الدخل الناتج عن تنمية الودائع الأوكرانية. ولكن ذُكِر أن ذلك سيتم توثيقه في اتفاقية مستقلة حول الصندوق الاستثماري (اتفاقية الصندوق)، والتي لم يتم إعدادها بعد ويجب أن يصادق عليها برلمانا البلدين. ولكن يُشترط أن تكون الإدارة مشتركة، وكذلك تغذية الصندوق بالأموال.
كما جاء في مشروع الاتفاق “صلاحيات ممثلي الحكومة الأميركية ستكون ضمن الحدود التي يسمح بها القانون الأميركي الحالي”. وهذا يعني أنّ مُديرِي الصندوق الأميركيين سوف يعملون ضمن نطاق اختصاصهم القضائي الأميركي، وليس الأوكراني.
3.سيتم تمويل الصندوق من العائدات المستقبلية لجميع أصول الموارد الطبيعية المملوكة للحكومة الأوكرانية (بغضّ النظر عمّا إذا كانت مملوكة بشكل مباشر أو غير مباشر). ولكن هذا الشرط لا ينطبق على العائدات الناجمة عن المشاريع القائمة حالياً.
4.ستساهم أوكرانيا بـ 50% من جميع العائدات التي تتلقاها من الاستثمار المستقبلي لجميع أصولها من الموارد الطبيعية، بغضّ النظر عن ملكيّتها. وستقدّم الولايات المتحدة مساهماتها أيضاً.
5.سيتم إعادة استثمار الأموال المقدمة للصندوق مرة واحدة على الأقل سنوياً في أوكرانيا. لم يتم تحديد المبالغ المراد إعادة إستثمارها، ولكن سيتم ترتيب الموضوع في اتفاقية الصندوق.
من الجدير بالذكر أن نصّ هذه الاتفاقية مكتوب بطريقة غامضة وعامة؛ إذ بقيت كافة النقاط الأساسية المتعلقة بـ: 1) إجراءات إدارة الصندوق، 2) توجيه الاستثمارات واستخدام موارد الصندوق، 3) إجراءات الحصول على تراخيص الاستثمار، 4) حقوق ملكية الكيانات التي يستثمر فيها الصندوق، “خلف الكواليس”! في كل هذه النقاط تتم الإحالة إلى (اتفاقية الصندوق)، التي لم يتم تقديمها وتوقيعها وتصديقها من قبل برلماني البلدين بعد.
بغضّ النظر عن كل ذلك، هذه الوثيقة لا تذكر في الواقع أنه على أوكرانيا إعادة المساعدات التي قدمتها لها الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما يصرّ عليه ترامب. من الممكن بطبيعة الحال أن يتم تقديم هذه الوثيقة العامة لترامب باعتبارها فرصة لإعادة الأموال الأمريكية في المستقبل. وهذا يعني أنه يمكنهم القول أنّ الصندوق ستملؤه كييف بالأموال، وسيديره الأميركيون، بعد ذلك يمكن منح الصندوق حقوقاً حصريةً في استثمار الموارد الطبيعية وإعادة الإعمار بعد الحرب، وبذلك يتم تسديد المساعدات الأميركية المقدمة سابقاً من قبل إدارة بايدن.
ولكن، أولاً، لم يتم كتابة أي شيء من هذا القبيل على وجه التحديد في الوثيقة نفسها. ثانياً، والأهم هو أننا نتحدث عن عائدات مشاريع مستقبلية، وفي ظروف الحرب من الصعب جذب استثمارات كبيرة. تحتاج عملية جذب المستثمرين وضخ أموال في مجال المعادن فترة طويلة وإجراءاتٍ معقّدة، ولا يمكن التنبّؤ بالزمن اللازم الذي يتطلبه هذا النوع من الاستثمارات لكي يبدأ بتوليد الأموال، التي يجب توجيه نصفها إلى هذا الصندوق الاستثماري.
علاوة على ذلك، لا يترتب على نصّ الاتفاقية أن الصندوق سيكون له حقوق حصرية في استثمار مكامن الثروات المعدنية أو ترميم البنية التحتية، كما أنه لم يتم تحديد حجم الصندوق أيضاً. لذلك، قد يكون استثمار منجم الزركونيوم، الموجود بالقرب من قرية بيرغا في منطقة أوليفسكي في مقاطعة جيتومير قرب الحدود مع بيلاروسيا، وبناء محطة لتوليد الطاقة الكهربائية كافياً للقول بأن الاتفاق تم تنفيذه بالكامل. أما باقي المشاريع فسيتم توزيعها على مستثمرين آخرين عبر القنوات الخاصة!
هذا يعني أن زيلينسكي يحاول من خلال هذا الاتفاق مواصلة خطّه السياسي الأصلي “بيع الهواء”، معتقداً أن مجرد توقيع الاتفاق سوف يؤدي إلى “إشباع غرور ترامب”، وبالتالي الحصول على بعض المكاسب؛ كاستمرار بقاء زيلينسكي في السلطة بعد انتهاء الحرب، وضمان تدفّق المساعدات العسكرية إذا استمرت الحرب، والموافقة على تقديم ضمانات أميركية لقوات حفظ السلام الأوروبية التي تطالب بها لندن وباريس.
لكن من الصعب الآنَ البتُّ فيما إذا كان ترامب سوف ينخدع بمثل هذه الخطوة أم لا؛ لأن مشروع الاتفاق لا يحتوي على أي ضمانات لإعادة أموال المستثمرين، كما أن طبيعة الاتفاق بحدّ ذاتها لا تسمح بذلك؛ فالاستثمارات مستقبلية وعوائدها ستتأتّى في وقت غير واضح وبحجم غير واضح.
الاتفاق لا يتضمن أي التزامات من طرف واشنطن لأوكرانيا، و لكن بموجب هذه الاتفاقية قد لا تحصل كييف على شيء. لذلك، قد توقّع الولايات المتحدة على هذه الاتفاقية، وخاصة أننا لاحظنا تغيراً في لهجة ترامب تجاه زيلينسكي خلال مؤتمره الصحفي مع رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، كما أن وزير المالية الأميركي سكوت بيسّانت أكّد البارحة أنه تم التوافق على النص النهائي للاتفاق وينتظر توقيع ترامب وزيلينسكي، مع العلم أن النسخة النهائية للاتفاق لم يتم نشرها حتى الآن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور آصف ملحم – مدير مركز JSM للأبحاث و الدراسات (موسكو).
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً