بقلم الدكتور عبدالله العبادي*
“نحن نتاج هذا الواقع وهذا الزمن الذي تختلط فيه الانهيارات الواضحة بالولادات الغامضة، ولا نتوب عن أحلامنا مهما تكررت انكساراتها”، لم يخطِئ محمود درويش في وصف ما آلت إليه الأوضاعُ اليوم. هذا زمنٌ اشتبك فيه كل شيء، المنطق باللامنطق بمفاهيمَ عديدةٍ ذات معانٍ متعدّدة، كلٌّ يراها من زاويته. لقد اتّضح من خلال انتفاضة الشعوب العربية قبل عدة سنوات، أنّ التحّرر من الاستعمار لا يقتصر مفهومه على بُعده الجغرافي، بل كان يجب الإطاحة بأنظمة استبدادية خيّمت لعقود، ظلت تمثّل استعماراً داخلياً قاتلاً، أو كما قال فرحات حشاد: “مشكلتنا ليست مع الاستعمار لأنّه زائل بل مع أبناء الوطن غير الشرعيين”. أحزاب وأنظمة حكمت عبر ثنائية الشمولية السياسية وتبديد ثروات بلدانها.
قبل ثلاثة عقود، أصدر بوريس يلتسين مرسوماً ألغى من خلاله أنشطة الحزب الشيوعي في الجامعات والمعامل وفي أماكن أخرى، قرار يلتسين لم يكن ضرورياً لأن الحزب كان في تدهور وتراجع مخيف بسبب وحشيته وافتقاره للكفاءات. هذا حال الكثير من الأحزاب العربية التي صارت هيئاتٍ كرتونيّةً تتناحر على الكراسي والمصالح الضيّقة والبحث عن المناصب وتوريثها.
هل حان الوقت لحلّها؟ أم تشبيبها؟ وهل يقبل كهنة أمون التنحي عن المناصب لصالح الشباب الحالمين بالتّغيير وبناء الأوطان، هناك شرفاء في كل وطن، ولكل زمان رجاله، لكن حب الكراسي والمناصب أقوى من حب الوطن او خدمة البلاد والعباد. يبدو أيضاً أنّ بعض الأحزاب التي كانت عظيمةً وذات مبادئ في طريقها للانهيار والنسيان، حتى في الغرب، الكثير من الأحزاب أدخلت نفسها في نفق مظلم بسبب تشدّدها جهة اليمين أو جهة اليسار، فأصابتها عدوى المرض السياسي الآتي من الشرق. فالمشكلة عميقة الجدور يمتزج فيها السياسي بالاجتماعي، فلا الشعوب قادرة على صنع القرار ولا الأحزاب كانت في مستوى تطلعات الشعوب، فهل نحن بحاجة لأحزاب جديدة أم بحاجة لشعوب جديدة أو كما قال الكاتب المسرحي الألماني بيرتولت بريخت:” يُصبِح البديل الوحيد هو.. حل الشعب وانتخاب شعب آخر”
لكن الموت أو الاندثار في عالم السياسة والأحزاب ليس ضرورياً، بقدر ما هو ضروري أن تتغيّر العقليّات المُسيّرة للأحزاب والتنظيمات السياسية التي يجب أن تضع أمام أعينها مصلحة البلاد قبل كل شيء، وكذا استقرارها وأمنها وتنميتها. لا شيء سيتغير بوجود طفيليات وخلايا سرطانية في جسم الأحزاب، همّها الوحيد الحفاظ على المكاسب ولو على حساب أمن واستقرار الوطن.
جُلُّ الأحزاب ظلّت حبيسة منطق الفرد أو العائلة التي حوّلت أغلبية الأحزاب لمزارع عائلية الهدف منها الاستفادة من الغنائم في صراعها مع الآخر، حيث لم تستطع هذه الأحزاب تطوير بنيتها الداخلية ولا تجديد مشاريعها أو أفرادها، عبر إنتاج هيكلة تعتمد الديمقراطية الداخلية كطريقة لتداول السلطة بشكل سلس ومنطقي وديمقراطي، إذ أحكمت العديدُ من الزعامات قبضتها على قيادة هذه الأحزاب ولعقود من الزمن وبشكل استبدادي.
إلا أنه لا يجب تبخيس العمل الحزبي عموماً، لا بدّ من الإشارة إلى وجود أحزاب سياسية قليلة جداً، وأحياناً مغمورة، ولا وزن لها على مستوى الحكومات، استطاعت إلى حدٍّ ما ضمان نوع من الديمقراطية الداخلية عبر نهج سياسة هيكلية، من خلال انتخاب الهياكل والمقرات، تحسب لها، استطاعت بوساطتها تأطير كمٍّ هائل من القاعدة الجماهيرية.
وفي الكثير من البلدان العربية لم تستوعب بعد العديد من الأحزاب، الحركية داخل الدولة على المستوى الإقليمي أو القاري أو الدولي، وغير قادرة على مواكبة بعض النجاحات الدبلوماسية للدولة، إذ أن أعداء النجاح وخونة الداخل لن يبقوا مكتوفي الأيدي، بل سيستغلون كل مناسببة للإساءة للوطن وعرقلة المسيرة التنموية. فكلّ الأحزاب مطالبة اليوم بتطوير أجهزتها وسياساتها ومواقفها وديمقراطياتها الداخلية عوض إصدار مواقف أحياناً تسيء لها وللوطن والمواطن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور عبدالله العبادي – كاتب صحفي، محرر الشؤون العربية و الأفريقية، مؤسس منصة تفكير عربي.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً